مما لا شك فيه؛ أن الأمير الطامح محمد بن سلمان، ابن الاثنين والثلاثين عاماً، أصبح حديث العالم كله، والشغل الشاغل لوسائل الإعلام العالمية. فهم أمام شخصية فريدة، سواء كانت بالسلب أم بالإيجاب.. شخصية ثرية درامياً تفتح شهية كتاب الدراما، وتُغني الأطباء النفسيين ويلهثون وراءها.. أمير طموح يمتطي حصاناً أسود، شاهراً سيفه بوجه كل من يقف في طريقه للوصول إلى العرش، حتى لو كان أباه؛ لولا المرض الذي أقعده وأنقذه من سيفه الذي قضى على أعمامه وأولاد عمومته الأقوياء والأثرياء ذائعي الصيت في العالم كله في ليلة واحدة وبقبضة واحدة!!
لم يكن ابن سلمان من الأمراء البارزين في العائلة الحاكمة كأولاد عمومته الآخرين، أمثال محمد بن نايف أو متعب بن عبد الله؛ الأكثر نفوذاً وسطوة في المملكة، أو الوليد بن طلال، الأكثر مالاً وشهرة بين أحفاد الملك عبد العزيز؛ نظراً لتعدد استثماراته وتشعبها في أنحاء العالم، من خلال الشركات العابرة للقارات وغزوه للمجال الفني من خلال أكبر شركات إنتاج فنية ومحطات فضائية واسعة الانتشار في العالم العربي، مما جعل اسمه مرتبطاً بالمال والفن واللهو والأنس!!
وعلى الرغم من أن ابن سلمان له أيضا استثمارات ضخمة داخل وخارج المملكة، ولديه ثروة طائلة وله علاقاته ومغامراته، فإنه يطمح للسلطة والشهرة بأي ثمن، ولو على حساب عائلته أو دينه.
ولعب القدر دوراً كبيراً في تمكينه من تحقيق حلمه؛ بموت الأمير سلطان بن عبد العزيز، ولي العهد، الذي خلفه والده الأمير سلمان بن عبد العزيز، فعينه على الفور رئيساً لديوان ولي العهد، فهو أحب أولاده إلى قلبه من أحب زوجاته على الإطلاق.
ومرة أخرى يلعب القدر دوراً في تحقيق حلمه. فحينما ساءت الحالة الصحية للملك عبد الله، وأصبح على مشارف الموت، أعد خالد التويجري، رئيس الديوان الملكي، والرجل القوي في المملكة والذي كان له التأثير الأقوى على قرارات الملك، مرسوماً ملكياً بتنحية الأمير سلمان من ولاية العهد، وتولية الأمير متعب بن عبد الله مكانه؛ تمهيداً لاعتلائه العرش بعد موت والده، ولكن الموت كان أسبق منهما، وأكثر تعاطفاً مع طموحات الأمير الحالم الذي انطلق كالصاروخ في رحلة الصعود، بعدما اعتلى الملك سلمان بن عبد العزيز عرش المملكة، ليطيح بالأمير محمد بن نايف، ولي العهد ووزير الداخلية الرجل القوي والمقرب من أمريكا، في مشهد درامي عالي الأداء من ميكافيللي الصغير. فبعد أن قبّل يده، نزل إلى الأرض ليقبل قدمه، ثم أُخرجه من القصر الملكي بطريقة مهينة تحت تهديد السلاح محاطاً بقوات الأمن، لتتحدد إقامته بعد ذلك، ولينفرد ميكافيللي الصغير بولاية العهد، وليصبح الحاكم الفعلي للمملكة والذي يستحوذ على مقاديرها، وليبدأ معركة الانتقام وتصفية الحسابات مع أولاد عمومته وكبار رجال المال والاقتصاد والإعلام في المملكة؛ شاهراً سيفه براية براقة اسمها محاربة الفساد، ولكنها راية خادعة وكاذبة لحقيقة معركته هذه.
نعم هم فاسدون، ولكنه هو أيضاً فاسد مثلهم، ولا يختلف عنهم. فمنذ أشهر قليلة اشترى يختا بنصف مليار دولار! وهنا قد يتبادر إلى الذهن العديد من التساؤلات: هل من تم القبض عليهم هم فقط الفاسدون في المملكة؟ وهل كان هذا الفساد مخفياً وغير معلوم حينما تولى الملك سلمان الحكم؟ ولماذا لم يبدأ عهده بتلك المعركة والتي لو قام بها لكان لها مردود إيجابي على جميع الأصعدة، بعكس ما هو حاصل الآن؟
معركته ليست معركة فساد، بل معركة تمكين وتقوية أوتاد مملكته السلمانية الجديدة
معركته ليست معركة فساد، بل معركة تمكين وتقوية أوتاد مملكته السلمانية الجديدة؛ التي يريد ترسيخها في المملكة التي كانت تسمى المملكة السعودية في السابق. لذلك يروق للبعض أن يسمي ما حدث في المملكة بأنه انقلاب أو ثورة، بينما يحلو لأنصاره أن يسموه إصلاحا، وكأن ابن سلمان هذا هو الرجل الصالح الذي جاء ليخرج المملكة من الظلمات إلى النور!! هو بالفعل سيخرجها من الظلمات، ولكن إلى النار. ولا أقصد بالطبع نار جهنم، فهذا شيء آخر حسابه عند الله، بل أعني نار الغضب التي تتأجج داخل المملكة والتي تخفي دخانها عن الأنظار حتى هذه اللحظة، ولكنها لن تستطيع أن تمنع تصاعد لهيبها الحارق في الفترة القادمة، فالصدام آت لا محالة.
ولأن ميكافيللي الصغير متعجل من أمره بغية الوصول للعرش، فهو لم يتعلم من ميكافيللي الكبير أصول اللعبة. واندفاعه وتهوره هذا؛ جعله يزرع بذور الخلافات والصراعات داخل المملكة، والتي قد تعرضها للانهيار. فالدولة العميقة لن تترك الأمير المغرور ينكل بها هكذا وتقف متفرجة، فلا بد أنه سيجيء اليوم الذي تثور فيه وتثأر لأبنائها مهما حصن نفسه منها. فالمجتمع السعودي قد اهتز بنيانه، وتصدعت أعمدته الثلاثة التي كان يرتكز عليها، وأولها الانشقاق الحاد الذي حدث داخل الأسرة السعودية الحاكمة، حيث فكك تماسكها باعتقاله لأبرز الأمراء وكسر هيبتهم، بل كسر هيبة عائلة آل سعود قاطبة.. وثانياً كسر المؤسسة الدينية الوهابية - والتي كانت توأم قيام المملكة مع آل سعود - وتطويعها بما يتفق مع هوى ابن سلمان، وبما يخالف كل المعتقدات والأعراف والعادات والتقاليد التي تربوا ونشأوا عليها، بل وصدروها إلى خارج المملكة. أما العمود الثالث، وهو الاقتصاد، فقد ضربه في مقتل باعتقاله أباطرة المال والاقتصاد، وتجميد أرصدتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم. فمن هو المستثمر الذي يجرؤ أن يضع أمواله في مشروعات في المملكة بعد ذلك؟!
السعوديون لا يزالون سكارى من آثار هذا الزلزال الذي أخل بكل التوازنات السياسية والعسكرية والاقتصادية والقبلية والإعلامية والدينية