أي حرب إسرائيلية على لبنان هي حرب إسرائيلية على لبنان، ولا عنوان آخر لها؛ أيا كانت المقولات الدعائية التي ستتذرّع بها.
وينبغي أن يكون واضحا أنّ المراهنة على استدعاء "العامل الإسرائيلي"، طمعا في حسم جولة أو التلاعب بالتوازنات، هو إشهار إفلاس على صُعُد عدة.
وإذ يفرك بعضهم أيديهم استبشارا بعدوان إسرائيلي مرتقب، فإنّ الأجدر بهم إدراك عواقب عجزهم، ومراجعة حساباتهم الاستراتيجية الواهية. فهل الانكشاف الإقليمي الشامل للقاعدة الحربية الضخمة في فلسطين المحتلة يخدمهم حقا؟ وهل سترحمهم السطوة الإسرائيلية في ساعة الحقيقة؟
المراهنة على استدعاء "العامل الإسرائيلي"، طمعا في حسم جولة أو التلاعب بالتوازنات، هو إشهار إفلاس على صُعُد عدة
تطيش بعض العقول، تحت مفعول وعي زائف تراكم خلال لحظة تاريخية مأزومة. ولا يمنع هذا الطيش من مداهمته بأسئلة تأسيسية ملحّة. فأي استقلال سيتحقق لأي دولة/ مشروع دولة، وأي سيادة وحصانة ومنعة يمكن الأمل بها؛ إن تم منح الغطاء التبريري للتهديد الاستراتيجي الإسرائيلي المزمن بأن يستفرد بوجهات مخصوصة، على أمل أن يكتفي بها دون سواها؟
من المفهوم أن تضطرب تقديرات المكلومين على فراش القهر والانكسارات السياسية والميدانية، لكنّ تمدد هذا الاضطراب إلى أوساط النخب ذاتها يبقى ضربا من الجزع الاستراتيجي المحفوف بالهواجس، علاوة على ما ينطوي عليه من التملص من المسؤولية، وتعبيره عن اضطراب منهجي ومأزق أخلاقي.
قد يُفيد في هذا الشأن تحليل سلوك الغارات الإسرائيلية على سوريا عبر السنوات الأخيرة، وكيف أنها جاءت لتعزيز الهيمنة الإسرائيلية، وليس لتخفيف أي قبضة كانت عن الشعب السوري. وهل ربح السوريون من حصيلة تلك الغارات المتلاحقة أساسا ليربح أي طرف عربي من هذا المنحى في لبنان أو غيره؟
تبقى فكرة الاستقواء بنظام الاحتلال في فلسطين أشبه بالمراهنة على إرشاد وحش كاسر إلى وجهة محددة في الافتراس؛ على أمل أن تنصرف أنيابه ومخالبه صوبها دون الاستدارة إلى وجهات أخرى. لا تنتهي اللعبة عند هذا المشهد، فالمسألة هي إن كان المرشد الساذج سينجو برأسه أم سيحظى بفرصة الاحتفاظ بوظيفة صبي الوحش أو المنفق على رغباته بلا حسبان، قبل أن يؤول إلى وجبة عشاء متأخر بعد نفاد الفرائس التي تم الإرشاد إلى مسالكها تباعا.
نزول أي طرف عربي إلى الخندق الإسرائيلي يعني وقوع قصور الحكم المأزومة ومواقع القرار المضطربة ضمن نطاق الهيمنة الإسرائيلية
من المصارحة القول إنّ نزول أي طرف عربي إلى الخندق الإسرائيلي، بشكل أو بآخر، سيكشف النقاب عن أنّ مساحة الاحتلال الواقعية تجاوزت نطاق السيطرة الجغرافية المباشرة. يعني ذلك وقوع قصور الحكم المأزومة ومواقع القرار المضطربة ضمن نطاق الهيمنة الإسرائيلية غير المسبوقة، وأنّ معزوفات الدعاية الرسمية المنشغلة بتمجيد الاستقلال الوطني وتكريس هيبة الحكم والحاكم؛ إنما تحاكي بفعلها هذا فرقة العازفين على ظهر التايتانيك التي تابعت العزف بإخلاص نادر، بينما كانت السفينة ذاتها تباشر الغرق إلى الحضيض.
مهما كانت الشعارات الذرائعية للاصطفافات القائمة أو المقبلة؛ فإنّ النزول إلى الخندق الإسرائيلي لا يتعلق أساسا بأي تطورات، كانت في لبنان أو في سوريا، أو حتى بصعود السطوة الإيرانية على المنطقة، فالسبب الجوهري كامن، قبل أي شيء، في الطبيعة البنيوية الهشة لكيانات العالم العربي، وارتهان قصورها المحجوبة عن الشعوب لشرعية خارجية؛ تعويضا عن فجوة الشرعية الداخلية. إنّ الغطاء الخارجي الأمريكي الغربي الذي تنشده العواصم يُلتَمَس من وكيل إقليمي مباشر، ليس سوى شرطي الحارة الإسرائيلي الذي تم منحه امتياز حمل الهراوة الغليظة دون غيره.
ما يدعو لقرع نواقيس الخطر، للمرة الألف ربما، أنّ تطورات الإقليم العربي كشفت مدى غياب الرشد عن مواقع القرار، وأنّ الوثوق برعونة المتهورين هي مقامرة استراتيجية، وأنّ الاندفاع إلى فتح الجبهات تحت شعارات التعبئة وأبواق التأجيج لا يضمن خروجا آمنا من المستنقع في الأمد المنظور، أو تملّصا من استحقاقات المواجهة الجسيمة والاستنزاف المزمن.
إنّ المواقف التي تتحمّس اليوم لعدوان إسرائيلي على لبنان بذريعة سلوك "حزب الله" وتدخلاته وخطاياه الاستراتيجية؛ ليست سوى نسخة متفاقمة من المواقف التي خذلت الثورة الفلسطينية "السنية"، وتركتها مكشوفة للقصف الإسرائيلي والاجتياحات والمجازر، وصولا إلى حصار بيروت طوال شهور ثلاثة في صيف 1982. وقد كان أن باشر النفوذ الإيراني تعبئة الفراغ الاستراتيجي الحاصل بعد ذلك، في غيبة أي مشروع بديل فاعل. والمواقف التي تتباكى على العراق "الواقع تحت التأثير الإيراني"؛ هي الحالة المستجدة من سلوك التأجيج لشن الحملات العسكرية الغربية ضده وحصار شعبه فوق عقد من الزمن، قبل تمكين تواطؤات أمريكية - إيرانية من بسط سلطانها على بلاد الرافدين. وفيرة هي الشواهد من وقائع الحاضر التي تتصل بعُرى وثقى لا انفصام لها مع سلوك العواصم في ما مضى، رغم تبدّل اللافتات والذرائع عبر المراحل.
ليس لبنان وحده هو وجهة الطيش الاستراتيجي الراهن، فقد تم إضعاف مصر، وتقويض فرص نهوض دول حديثة تستند إلى إرادة شعوبها
لم يكن لبنان وحده، إذن، هو وجهة الطيش الاستراتيجي الراهن في المشهد العربي، فقد تم إضعاف مصر وإزاحتها إلى الهامش، وجرى تقويض فرص الإقليم في نهوض دول حديثة تستند إلى إرادة شعوبها، كما يتضح في ليبيا واليمن مثلا، مع نسج الأحابيل لتركيا الناهضة خلال ذلك. ووقع تسليم العراق لقمة سائغة لمعادلة أمريكية - إيرانية استبدت به بعد تأجيج الحرب العراقية - الإيرانية من قبل ثماني سنوات بحيالها بكل أثمانها الفادحة، ثم امتدت التلاعبات الهوجاء إلى البنيان الخليجي ذاته على نحو يتجاوز أي منطق عقلاني.
أما الشعب السوري المكلوم، فتم خذلانه سنوات مديدة، وتُرِك نهبا للبراميل المتفجرة، واجتياح التشكيلات العابرة للحدود بشعارات طائفية سقيمة. وصعدت المتاجرة السياسية والدعائية بمأساته، دون أن تدفع العواصم بقواتها لحمايته، بل باشرت إذكاء حالة عسكرية بدائية طائشة ومتشظية ضمن حدود تصرف مرسومة أمريكيا؛ على نفقة شعارات الحرية والكرامة التي تطلع إليها السوريون ودفعوا التضحيات العزيزة لأجلها. ولن تكون أي حرب على لبنان، وإن تذرّعت بسيادته أو بالمأساة السورية، سوى دحرجة متسارعة ضمن اصطفافات المحور الإسرائيلي أساسا ولخدمته قبل أي شيء آخر، مهما تلاعب بعضهم بالألفاظ المضللة.
الشعب السوري تم خذلانه سنوات مديدة، وتُرِك نهبا للبراميل المتفجرة، واجتياح التشكيلات العابرة للحدود بشعارات طائفية سقيمة
أي ضربة إسرائيلية من أي نوع ستعود بمكاسب عدة على الطرف المُستهدف بها، رغم ما يُلازمها من خسائر وأضرار
الجديد في التصعيد بين السعودية وإيران
محمد بن سلمان ومذبحة الأمراء والوزراء في السعودية
ملاحظات أساسية حول استقالة سعد الحريري