في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أقدمت السلطات السعودية على توقيف أحد عشر أميراً، وأربعة وزراء، وعشرات المسؤولين الآخرين ورجال الأعمال البارزين، بعد ساعات من إصدار العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً بتشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد، برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. في حين أن التوقيفات السياسية أمرٌ متوقَّع كلما اشتدّت الضغوط الاقتصادية أو السياسية في المملكة، إلا أن هوية الموقوفين وتوقيت التوقيفات وطبيعتها أثارت تكهّنات واسعة بأن بن سلمان يلجأ إلى الاتهامات بالفساد من أجل ترسيخ سلطته السياسية.
وفيما كانت الاعتقالات السياسية تستهدف عادةً المتشدّدين والنشطاء الإسلاميين، طالت موجة التوقيفات هذه المرة أشخاصاً – على غرار الأمير الملياردير الوليد بن طلال – على ارتباط وثيق بشبكات محسوبيات معقّدة داخل الدولة وخارجها، ما يُشير إلى أن بن سلمان يعمل على إلغاء المنافسين المحتملين الذين يمتلكون روابط في القطاع العسكري وفي عالم الأعمال. تُظهر هذه التوقيفات أيضاً أن أسلوب بن سلمان في القيادة يتّسم بالفجائية والصِدامية والمجازفة.
كان انعدام الأمن السياسي المتصاعد إبان الربيع العربي قد دفعَ بالرياض إلى إقرار العديد من القوانين والإجراءات التقييدية في العام 2014، على غرار النظام الجزائي لجرائم الإرهاب وتمويله، والمرسوم الملكي رقم 44، من أجل الحد من قدرة الأفراد على التأثير في الرأي العام. بيد أن الصعود السريع لمحمد بن سلمان إلى سدّة السلطة، والذي جعل من الصعب على المسؤولين في فريقه إنشاء شبكات من الثقة والمسؤولية المتبادَلة، منحَه سلطة شبه مطلقة على المناصب الأساسية في الدولة – ما سهّل بدوره صعود موجات التوقيفات السياسية التي يشنّها تحت ذرائع متنوّعة.
على سبيل المثال، استهدفت موجة من التوقيفات في أيلول/ سبتمبر الماضي أكثر من 70 مثقّفاً وأكاديمياً وكاتباً وشخصية إسلامية أساسية اتّهمتهم رئاسة أمن الدولة، وهو جهاز استخباراتي يخضع مباشرةً لإشراف الملك، بالتحريض على العنف ضد الدولة والعمل على الإخلال بأمنها واستقرارها. في حين أن الدولة لم تقدّم إثباتات بعد، ولم يمثل الموقوفون أمام المحكمة، غالب الظن أن هذه التوقيفات مرتبطة جزئياً بالآراء التي يعبّرون عنها عبر الإنترنت حول مسائل حسّاسة، مثل الإصلاح الاقتصادي الداخلي – كما كان حال عصام الزامل وجميل فارسي على الأرجح.
ومن المحتمل أيضاً أن بعض الأشخاص اعتُقِلوا على خلفية انتقادهم للنزاع مع قطر. في آب/أغسطس الماضي، اقترح سعود القحطاني، المستشار بالديوان الملكي، على المواطنين إدراج كل اسم يرون وجوب ضمّه إلى القائمة السوداء – وقد دافع أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات عن هذا الاقتراح – من أجل تحديد هوية الأشخاص الذين لا يدعمون حملة الدولة ضد قطر. بيد أن النمط الأوسع للتوقيفات يكشف عن محاولة تقوم بها الدولة لإحكام قبضتها على المعارضين، بغض النظر عن الموضوع الذي يعارضونها على أساسه، وترويج سردياتها الخاصة عن الشؤون الداخلية والخارجية.
على سبيل المثال، كان كثرٌ من الموقوفين موظّفين في القطاع الحكومي وأكاديميين يشغلون مناصب نافذة، على غرار سبعة من قضاة المحكمة الجزائية المتخصصة التي تبتّ في قضايا الإرهاب. ربما استُهدِف القضاة على خلفية علاقتهم بولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف، الذي كان في ما مضى يشرف مباشرةً على المحكمة.
وقد برزت في شكل خاص سيطرة الدولة على مواقع التواصل الاجتماعي. في 27 تشرين الأول/أكتوبر، عُيِّن القحطاني، الذي كان وراء وضع القائمة السوداء، رئيساً لاتحاد الأمن الإلكتروني والبرمجيات الذي أنشئ حديثاً ويشكّل جزءاً من الهيئة العامة للرياضة برئاسة تركي آل الشيخ. يشي تشكيل الاتحاد، فضلاً عن الهيئة الوطنية للأمن السيبراني التي أنشئت في 31 تشرين الأول/أكتوبر ضمن رئاسة أمن الدولة، بحدوث تغيير في تكتيكات الدولة التي انتقلت من استخدام الدعاة الدينيين والمخبرين لترويج سرديتها إلى الاستعانة بالمؤثّرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي واستهداف المؤثرين بها.
مثلاً، اعتُقِل الداعية الإسلامي المرموق سلمان العودة في العاشر من أيلول/سبتمبر الماضي بعد نشره صلاة عبر صفحته على موقع "تويتر" يدعو فيها إلى المصالحة بين قادة الخليج. كذلك اعتقلت السلطات شقيقه خالد العودة لقيامه بتسليط الضوء على اعتقال شقيقه سلمان وتوجيه الانتقادات بهذا الخصوص.
كان عدد كبير من الأشخاص الذين اعتُقِلوا في أيلول/سبتمبر قد رفع سابقاً عريضة إلى الدولة يطالب فيها بالإصلاحات، لكنهم التزموا الصمت ولم ينخرطوا في الشؤون العامة في السنوات القليلة الماضية، على غرار القياديَّين الشابَّين المؤثّرَين، الدكتور مصطفى الحسن وعبد الله المالكي المعروفَين بنضالهما الطويل من أجل حرية التعبير. وقد عبّر فقهاء كبار مرتبطون بالدولة عن دعمهم للتوقيفات، معتبرين أن المبادرات التي قام بها المعتقلون لتنظيم مؤتمرات شبابية وتشجيع النقاشات المستقلة، تندرج في إطار جريمة الخيانة.
وفي خطوة تتعارض ظاهرياً مع حملات القمع، اتخذت السلطات، في 26 أيلول/سبتمبر، قراراً يقضي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وأجازت لها حضور الفعاليات الرياضية. إلى جانب هذه الإصلاحات الاجتماعية المنتظرة منذ وقت طويل، تعهّد محمد بن سلمان، في 24 تشرين الأول/أكتوبر، بإعادة السعودية إلى الإسلام المعتدل خلال فعاليات اقتصادية شهدت حضوراً واسعاً لإطلاق مدينة المستقبل "نيوم". وقد أشاد الرأي العام، على نطاق واسع، بهذه الخطوات الآيلة إلى التخلص من العقيدة السلفية المتجذّرة في الدولة. بيد أن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والدينية المحدودة التي أعلن عنها بن سلمان حوّلت الأنظار بعيداً من التوقيفات الأخيرة، حتى إنها برّرتها كجزءٍ من إصلاحات تربوية مدروسة للحد من تأثير الإخوان المسلمين على الأكاديميين السعوديين.
ومن الصعب أن نتصوّر أن هذا الإسلام المعتدل سيسلك طريقه نحو التحقق، في حين أن شخصيات إصلاحية على غرار عبدالله المالكي تقبع في السجن، ويتبنّى فقهاء دينيون مرتبطون بالدولة آراء متشدّدة ومتنافية مع الاعتدال الإسلامي عبر مواقعهم الإلكترونية الرسمية، وفيما لا تزال الروايات تُصادَر وتُسحَب من المكتبات بتهمة "خدش الحياء".
ليس التباين بين الإصلاحات الموعودة وحملة القمع مؤشراً عن سياق اجتماعي-اقتصادي جديد ولا عن قيادةٍ سياسيةٍ تقدّميةٍ. بل إنه يشي فقط بإحكام المنظومة السياسية قبضتها على الخطاب العام، حيث تتحوّل الإجراءات الأمنية المعزّزة والوعود بالإصلاحات في المستقبل، ورقة ضغط في يد الدولة لإخضاع الرأي العام المنقسِم، والشباب المتململين، والنساء المهمّشات.
يتسبّب النطاق الواسع للاعتقالات، فضلاً عن تشويه سمعة المتّهمين عبر الإنترنت، وعدم مراعاة الأصول والإجراءات القانونية في ملاحقتهم قضائياً، باتّساع رقعة المعارضة والاستياء، وبتقويض ثقة المستثمرين الأجانب والمسؤولين الرسميين بالاستقرار السياسي للمملكة.
لقد حافظ النظام الملَكي تقليدياً على سلطته المطلقة على الرأي العام عبر دعم المؤسسة الدينية وفرض رقابة على الإعلام والقطاع التربوي. وقد جعلت هذه المؤسسات من النظام الملكي جزءاً مركزياً في أي إصلاحات، وأمّنت له السيطرة على السرديات المحيطة بها. لكن نظراً إلى القيود الاقتصادية والسياسية المتزايدة، ليس مفاجئاً أن الدولة تستهدف الآن حاملي لواء الإصلاح، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية، كي تُبقي على سيطرتها على الرأي العام.
(عن موقع كارنيغي)