"إسرائيل الكبرى".. ما بين وعد بلفور ووعد ترامب

إنه اليوم المشؤوم في تاريخ الأمة العربية والإسلامية، يوم الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917.. اليوم الذي أرسل فيه آرثر جيمس بلفور رسالة إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية، يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. إنه وعد من لا يملك لمن لا يستحق.

وكان تعداد اليهود في فلسطين في هذا الوقت لا يزيد عن خمسين ألفا من أصل عدد اليهود في العالم الذي كان يقدر بحوالي 12 مليونا حينئذاك، وكانوا يمثلون خمسة في المئة من مجموع عدد الفلسطينيين، أصحاب الأرض منذ آلاف السنين، والذي كان يبلغ عددهم - آنذاك - 650 ألفا. ولكن هذا الوعد المشؤوم تجاهلهم، ولم يعترف لهم إلا ببعض الحقوق المدنية والدينية؛ متجاهلا حقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية!! وإذا كان وعد بلفور قد أقر بحق اليهود في إقامة وطن قومي لهم إلا أن الأخطر منه والأهم مائة مرة مؤتمر فرساي الذي عقد بعده بعامين أي عام 1919 والذي تمخض عنه وثيقة الاتفاق بين الأمير فيصل ممثل المملكة العربية الحجازية والدكتور حاييم وايزمن ممثل المنظمة الصهيونية والتي تضمنت بنودا تسلب حقوق الفلسطينيين وتعزز من الوجود اليهودي في فلسطين كالبند الذي ينص على: يجب أن تتخذ جميع الإجراءات لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين على مدى واسع، والحث عليها وبأقصى ما يمكن من السرعة؛ لاستقرار المهاجرين في الأرض عن طريق الإسكان والزراعة الكثيفة.

بوثيقة فرساي انطلقت الدعوة، وأرتفع النداء لليهود في جميع أنحاء العالم للتجمع من الشتات، وفتحت أبواب فلسطين على مصراعيها، فلبّوا الدعوة واستجابوا للنداء. وتوالت الهجرة اليهودية من شتى أقطار العالم إلى فلسطين. وانصهرت في بوتقة اليهودية أكثر من سبعين جنسية، وكان ذلك بمثابة الخطوة الأولى لإقامة كيان يضم اليهود.

وكان وعد بلفور المستند القانوني الذي استندت إليه الحركة الصهيونية العالمية لتدعم مطلبها بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وتحقيق حلم اليهود. وكان لها ما أرادت، وتحقق حلمها بالفعل بإقامة دولة إسرائيل في 15 من أيار/ مايو عام 1948، ليحظى هذا الكيان بعضوية الأمم المتحدة بضغط من الدول الكبرى، ولتصبح إسرائيل أول دولة في تاريخ النظام السياسي العالمي التي تنشأ على أرض مغتصبة بعد أن هجرت سكانها الأصليون خارج وطنهم وتتلقى مساندة دولية ودعما غير مسبوق من أكبر دولة في العالم (الولايات الأمريكية المتحدة)، مما جعلها تتغطرس وتعربد في المنطقة، وتشن حروبا وتتوسع وتبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية، وتبطش بمن تبقى من الشعب الفلسطيني على أرضه؛ دون رحمة ولا إنسانية!!

لن أخوض كثيرا في التاريخ، ولا في الأسباب التي دفعت بريطانيا العظمى لإنشاء هذا الكيان الصهيوني، والدعم الغربي اللامحدود له، فمهما قيل من مبررات إنسانية أو دينية فهو زيف وتدليس لتجميل ذلك المشروع الإمبريالي الغربي المسمى إسرائيل الذي زرع في المنطقة ليرعى المصالح الاستعمارية الغربية، وكان يسمى وقتها كلب الحراسة في المنطقة! واليوم يحتفل نتنياهو بمرور مائة عام على وعد بلفور؛ مع رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماريا ماي التي تفتخر بكل فجاجة بأن بلادها ساهمت في إنشاء دولة إسرائيل. وبالطبع لم تهتم بدعوة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية الوهمية، بتقديم اعتذار للشعب الفلسطيني عن سرقة فلسطين. ومن المضحك أن تجئ هذه الدعوة ممن تنازل عن الأرض في مفاوضاته المخزية مع العدو الصهيوني!!

وكان نتنياهو قد سبق ذكرى وعد بلفور المشؤوم بقصف أحد أنفاق المقاومة في غزة، ما أدى إلى استشهاد 12 مقاتلا، وكأنه أراد أن يستفز المقاومة الفلسطينية ليرى ردة فعلها ويضعها في اختبار صعب، وسط أجواء تلك الذكرى الأليمة؛ التي قلبت الأوجاع، وأشعلت نيران الغضب من جديد داخل النفوس، وحركت حلم التحرر الذي لم يفارق حماس لحظة واحدة منذ إنشائها، ولكنها الآن أصبحت مكبلة باتفاقية مشؤومة، لا تقل شؤما عن وعد بلفور، تُسمى "المصالحة الفلسطينية"، والتي تنازلت فيها حماس عن السلطة في غزة، وسلمت إدارة المعابر إلى سلطة الرئيس المنتهية ولايته محمود عباس؛ الذي يختار أيضا أجواء ذكرى وعد بلفور المشؤوم، كصديقه نتنياهو، ليتم فيه التسليم في مشهد مخز؛ وسط احتفالية تعلق فيها صوره وصور السيسي، وتظهره في صورة المنتصر الفاتح الذي استرد المعابر من الغزاة المحتلين، وليس من أخوة في الوطن عقد معهم مصالحة وطنية على أساس الشراكة، ما أحدث صدمة في كوادر حماس، وسط صمت تام من كل قيادات الحركة؛ باستثناء د. موسى أبو مرزوق الذي كتب على حسابه في تويتر: "الطريقة التي تم استلام معبر رفح فيها غير لائقة، ولم نتفق عليها. وأي اتفاق يخلو من العدالة والإنصاف ويحترم ما تم التوقيع عليه؛ لن يكتب له النجاح". وفي تغريدة أخرى كتب يقول: "ما تم ليس له علاقة بالوحدة، فالوحدة بين طرفين. ما حصل هو استبدال استجابة لشروط إسرائيل معابر بلا حماس".
ويشكو في ثالثة من أن فتح تشترط على حماس الآن الاعتراف بإسرائيل كي تشترك في الحكومة، وهذا يخالف الاتفاق!!

فبعد أن أزاحوا حماس من المشهد السياسي، يريدون الآن تقليم أظافرها وتجريدها من كل مصادر القوة، وهذا هو الغرض من المصالحة.. يريدون نزع سلاحها، وأن يكون تحت أمرة السلطة الفلسطينية، وهو ما صرح به أبو مازن أكثر من مرة، وما يتوافق مع الرغبة الإسرائيلية التي أعلنها نتنياهو، بحيث يسهل بعد ذلك دمجها (حماس) مع سلطة أوسلو؛ في طريق التسوية التي تفرضها الإدارة الأمريكية وتتبناها أطراف عربية عديدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، كجزء من سيناريو صفقة القرن!! وهنا المأزق الحقيقي الذي وضعت حماس نفسها فيه بتلك الاتفاقية المليئة بالألغام، والتي لم تكن خافية على أحد، ولا أعتقد أنها كانت خافية على حماس، إلا إذا كان يحيى السنوار، قائد حماس في غزة، والذي قدم المزيد من التنازلات لحركة فتح والتي حصلت بموجبها على مكاسب فاقت ما كانت تطالب به مما أغراها لفرض شروطها والتعنت بمواقفها، يرى نفقا للخروج به من هذا المأزق، والذى نراه صعبا للغاية.

فإما أن تستمر حركة حماس المقاومة، وتقف ضد تيار أوسلو بكل ما أوتيت من قوة، وتصحح الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته في حق نفسها، والذي أصبح أكثر صعوبة بعد أن أصبحت (الحركة) تحت سيطرة المخابرات المصرية، والتي نعرف موقف السيسي العدائي لها؛ فلن يسمح لها بتكرار سيناريو 2007.. وإما أن تصبح فصلا في تاريخ المقاومة الفلسطينية منذ بدأت في عشرينيات القرن الماضي، وتولد من رحمها مقاومة جديدة تحمل شعلة النضال لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر..
فإذا كان وعد بلفور عام 1907 قد منح اليهود وطن قومي في فلسطين، فإن وعد ترامب عام 2017 قد منح الكيان الصهيوني الوطن العربي كله، وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات من خلال صفقة القرن!!