اندلاع قصة الرسائل التي تبادلها الداعية نعمان علي خان مع بعض الموظفات والزميلات والطالبات، بدأنا نرى رسائل هستيرية بعض الشيء تصدر من هنا وهناك. وعلى ما يبدو، فإنها كلها تصب بشكل أساسي في مضمون واحد، وهو أنه من الخطأ أن نؤله الشخصيات العامة، وأنه ينبغي ألّا يهتز إيماننا لمجرد أن أحد الدعاة زاغ عن الصورة التي رسمناها له.
ولكن هناك الكثير من المشاكل مع ردة الفعل هذه، والمشكلة الأكثر وضوحا هي أنه يبالغ في تقدير أهمية الشخصيات العامة الإسلامية في حياة الأمة، وكأن بضعة لقطات من دردشة حميمة حدثت بين شيخ وسيدة يغازلها؛ ستسدد ضربة قاصمة لإيماننا بالإسلام، ويكأننا نتحدث عن أمر جلل، مثل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مثلا… هذه النظرة المتضخمة لأهمية هؤلاء الدعاة تكشف عن الكثير.
فكلمة "لا تؤلهوهم" نفسها التي يقولونها عندما يسقط أحدهم من فوق ما يتصورون أنه "منبره" الذي يرتكز عليه، يبدو أنها الواقع تهدف إلى تثبيت الدعاة على هذا الركيزة! عندما يسقط شخص ما، فالمنادون بهذه الكلمة لا يخافون في الحقيقة من فقداننا لإيماننا بالإسلام (فهذا أمر لا يعقل)، ولكنهم يخافون أن نفقد الثقة بهم هم أنفسهم كمحكمين يحددون ما تعريف مصطلح المسلم الحق… باختصار هم يخافون من تأثير الدومينو.
ولكن إليكم هذه النقطة: بإصرارهم على طرد نعمان علي خان من على منبره، لعدم تطابقه 100 في المئة مع ما يرون أنه تعريف المسلم الحق، فهم يعززون "تأليه" كل الشيوخ مثله، ويعززون فكرة أنه لا يمكن لأحد أن يكون مؤهلا للتحدث عن الإسلام ما لم يكن مثاليا وبلا خطيئة، رجلا كان أو امرأة، ويعززون الفكرة القائلة بأن القصور والعيوب ونقاط الضعف البشرية العادية تتساوى مع النفاق. لقد كان لنعمان علي خان الكثير من الأشياء المثيرة والمفيدة ليقولها عن القرآن، ولا زال يفعل، ولم يطرأ أي تغيير على ذلك.
ما يجب أن يتغير هو هذه الفكرة غير الإسلامية التي ترى أن ارتكاب التجاوزات سيجعلك مستبعدا من نقل معرفتك للآخرين، ومن المساهمة في الفهم العام وتنمية الأمة. لا يمكنك، أن تقول إننا لا يجب أن نؤله أساتذتنا وشيوخنا، وفي نفس الوقت تقول إنه يجب أن تتم مقاطعة نعمان علي خان؛ لأنه لم يرق إلى الصورة النمطية التي كان من المفترض أن يكون عليها.
لا يمكنك أن تقذف شخصا ما من فوق معبد تأليه مشاهير الشيوخ ثم تدعي في الوقت نفسه أنه ينبغي ألّا يكون هناك معبدا للتأليه! أنت بهذا تحاول أن تحافظ على معبد التأليه عن طريق إبعاد هذا أو ذاك عنه. إن كنا نريد أن نصف رد الفعل هذا بشيء، فهو يبرر طردهم هم أنفسهم من مثل هذا المعبد؛ لأن ما يفعلونه لا يعكس على الإطلاق المبادئ الإسلامية الحقيقية التي تتعامل مع الخطيئة والزلل برحمة ورأفة.
الإسلاموية اختزلت الدين في قائمة من النقاط التي يتم وضع علامات بجوارها؛ وكأنها أزالت من الإسلام القدرة على التعامل مع التعقيد البشري
واسمحوا لي أن أوضح شيئا هنا؛ فوفقا للتعريف الدارج، الدين يعتبر أيديولوجية. فالأيديولوجية هي المصطلح الأوسع، والدين هو مجموعة فرعية بداخله، بالتالي فكل دين إيديولوجية، ولكن ليس كل أيديولوجية تعتبر دينا.
ولكني لا أتفق مع هذا التعريف! أولا وقبل كل شيء، فإن مصطلح "أيديولوجية" في حد ذاته مصطلح حديث نسبيا، وتمت صياغته حول نهاية عام 1700، وهو في الأساس يشير إلى أي نوع لنظام اعتقاد معياري. ولكن من المستحيل حرفيا للناس أن يطوروا أي نظام لمعتقد معياري في منأى عن المعتقدات الدينية التي سبقته بآلاف السنين، فأي مفهوم للخير والشر، الرذيلة والفضيلة، أو الصواب والخطأ، أو الأخلاقي وغير الأخلاقي، لا يمكن إلا أن يستقى من دين تم غرسه على مدى تاريخ البشرية.
وبطبيعة الحال، فبالنسبة للمؤمنين بأي دين، سنجد أن أصول هذه التعاليم تكون إلهية، وأما بالنسبة لمن لا يؤمنون بأي دين، فبكل صدق، هم لن يتعرفوا على أصول هذه التعاليم؛ لأنها ستكون ترسخت من عصور بائدة. فالإيمان بالدين، كما يعرف أي شخص، كان دائما سمة من سمات الوجود الإنساني. فمن وجهة نظر طائفية، أكثر ما يمكن قوله هو أن الديانات لها بدايات، ولها مؤسسون، ولها أصول محددة. وهناك بعض الديانات الخاصة التي لها سرديات فريدة خاصة بها، ولها قواعدها وهياكلها الخاصة، ولكن هذه كلها مجرد طرق لتنظيم وشرح المعتقدات الدينية التي كانت موجودة قبل هذه الأديان، والتي ساهمت في تأسيس معارف جميع الديانات الأخرى، وفي تأسيس المعتقدات الدينية التي تبدو كجزء لا يتجزأ من طبيعة البشر. وهذا كله يتفق مع المفهوم الإسلامي "للفطرة"، والتفسير الإسلامي بأن المعتقد الديني لم يكن فقط قائما طوال الوقت، ولكن رسالته الأساسية كانت أيضا دائما متسقة مع نفسها. لذا، فأنا أرى أن الدين أكبر بكثير من الأيديولوجية، ولهذا فإننا عندما نتعامل مع الإسلام بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع الأيديولوجية، فإننا للأسف سننتقص منه ونقلصه.
لو تعاملنا مع الإسلام كأيديولوجية، عكس التعامل معه كدين، سيجعل الناس يساوون بين التمسك السطحي بالممارسات الظاهرية وبين المناقب الداخلية
فمثلا لو تعاملنا مع الإسلام كأيديولوجية، عكس التعامل معه كدين، سيجعل الناس يساوون بين التمسك السطحي بالممارسات الظاهرية وبين المناقب الداخلية، بحيث إذا وضع أحدهم علامة بجوار كل نقطة في قائمة النقاط، فهذا سيعني أن الشخص المقصود خير وبلا خطيئة: فإن كان بلحية فهو متدين، وإن كانت ترتدي الحجاب أو النقاب فهي صالحة، وإذا حفظ أو حفظت القرآن فهو طيب، وتقي وعلى خلق. ولكن هذا لا يعني ذاك في الحقيقة!! فإذا كان لديك لحية، فهذا يعني أن لديك لحية. وإن كانت ترتدي الحجاب، فهذا يعني أنها ترتدي الحجاب. وهذا كل شيء؛ لا أكثر ولا أقل.
إن كنت تصر على أخذ تعاليم الدين حصريا من أشخاص خالين من التعقيد البشري، ولا يفشلون أحيانا في جهادهم لأنفسهم، وليس لديهم قضايا شخصية أو نفسية أو عاطفية؛ أو بعبارة أخرى، لا يحملون أي تشابه بك أو بأي إنسان آخر على الأرض بسبب تقواهم المطلقة، فدعني أعرف إذا ممن ستتعلم؟! وإن وجدت هذا الشخص، فأنا أرتعد وأنا أفكر ما قد تتعلمه منه.
قبل أن يقوم كارل يونج بالتنظير لقضية "الظل" أو "الجانب المظلم" من النفس البشرية بفترة طويل، كنا نحن نعرف الكثير عن الصفات الحيوانية للنفس، وكنا نعرف عن الصراع المستمر الذي ننخرط فيه كلنا ضد هذه الجوانب السوداء من ذواتنا، وعلمنا أن أفضل الناس ليسوا بلا خطيئة، ولكن الأفضل هم من يتوبون ويستغفرون عندما يخطئون. وعلمنا أن الخطيئة والمخالفة هي شكل من أشكال الكبت النفسي أكثر من أي شيء آخر. فلغة الإسلام ذاتها عن الخطيئة والعدوان تجسد الرحمة والتعاطف، وتعزز إعادة التأهيل وليس الإدانة.
الإيديولوجيات لا يمكن أن تتسامح مع الانحرافات؛ لأنها تصدر الأحكام بصرامة، وقسوة وبشكل مطلق. وهذا هو ما أصاب ممارستنا الشخصية وفهمنا للإسلام
"الإصلاح" الديني المحكوم بالفشل.. في السعودية والمنطقة