بعد تفجير الاحتلال الإسرائيلي (الإثنين 30 تشرين أول/ أكتوبر) لنفق هجومي للمقاومة يتجاوز قطاع غزّة إلى الأرض المحتلّة عام 1948؛ لم يكن قد تأكد بعد إن كان القصد هو تفجير النفق فحسب، أم توجيه ضربة أمنية مزدوجة تبطل فاعلية النفق، وفي الوقت نفسه تغتال عددا من قيادات سرايا القدس، الذراع المسلحة لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. على الأقل إلى حين كتابة هذه المقالة؛ لم يكن الأمر قد اتّضح تماما، لا سيما وأن الصحافة الإسرائيلية نفت أن يكون جيش الاحتلال قد استخدم غازات سامّة في هذه العملية.
هذا الحدث جاء بعد فترة وجيزة على محاولة اغتيال غامضة استهدفت
قائد قوات الأمن الداخلي في قطاع غزّة، اللواء توفيق أبو نعيم
ثمّة موضوعات كثيرة يمكن تناولها انطلاقا من هذا الحدث، والذي جاء بعد فترة وجيزة على محاولة اغتيال غامضة استهدفت قائد قوات الأمن الداخلي في قطاع غزّة، اللواء توفيق أبو نعيم. إذ يشير ذلك كلّه، إلى حجم التعقيد والتشابك الذي يسيّج جغرافيا صغيرة بحجم قطاع غزّة، ويلقي عليها هذا القدر من الأعباء والتحديات المتصلة بالاحتلال، وبجملة قوى إقليمية ودولية، وفاعلين دون ذلك، وهذا قائم في كل الأحوال، أيّا كان الطرف الذي يقف خلف محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت اللواء أبو نعيم.
جانب من هذا التعقيد يلقي بظلاله على
خيارات المقاومة في قطاع غزّة، لا سيما وأن قرار المواجهة لا يمكن أن تنفرد به حركة الجهاد الإسلامي، ليس فقط لأن كتائب القسام، ذراع حماس المسلّحة، قد ارتقى لها شهداء أيضا في الحادث نفسه، ولكن لأن هذه الأخيرة هي المعنيّة بالدرجة الأولى بالوضع العام في قطاع غزّة، وبالتحديد من جهة ظروف المقاومة التي تشكّل حماس كبرى فصائلها وأكثرها فاعلية. وقد تمكّنت مجمل حالة المقاومة في قطاع غزّة من مراكمة قدراتها؛ في ظلّ الظروف التي أتاحها لها حكم حماس لقطاع غزّة خلال السنوات العشر الماضية.
تبدو المقاومة اليوم في غزّة في ظرف بالغ الحرج
تبدو المقاومة اليوم في غزّة في ظرف بالغ الحرج، فتمرير الضربة بلا ردّ؛ يعني تكريس معادلة جديدة تكون فيها يد الاحتلال هي العليا، وعلى نحو يعطّل سلاح المقاومة تماما. فبعدما تراجعت فاعلية سلاح المقاومة من كونه سلاح استنزاف وإشغال للعدوّ، ليتحول إلى سلاح دفاعي محض، ها هي فاعليته تتراجع عن كونه دفاعيّا أيضا، بما يعمّق من أزمات المقاومة التي انبثقت عن سلسلة من الاختيارات الذاتية والأسباب الموضوعية انتهت إلى هذه المعادلة.
بيد أن الردّ من شأنه أن يُدحرج المواجهة بلوغا إلى حرب رابعة، في ظلّ ميزان قوى أكثر اختلالا مما كان عليه الحال في حرب العام 2014، فالحاضنة المجتمعية للمقاومة في غزّة قد تعرّضت لمحاولات تدمير ممنهجة منذ نهاية تلك الحرب وحتّى الآن، أنهكتها، ثم ازدادت الأوضاع الإقليمية تردّيا بظهور ما يبدو محورا إقليميّا عربيّا متحالفا مع نتنياهو، ومستظلاّ بإدارة ترامب. ثم إنّ المقاومة لم تتمكن من بناء مراكز تعزيز في جغرافيات أخرى، إن في الضفة أو في المحيط العربي، للعقبات الموضوعية بطبيعة الحال، ولافتقار الإرادة فيما تعلّق بالعمل انطلاقا من دول الطوق.
تمرير الضربة بلا ردّ؛ يعني تكريس معادلة جديدة
والردّ من شأنه أن يُدحرج المواجهة إلى حرب رابعة
جانب من التعقيد أيضا متّصل بالعدوّ؛ الذي اختار هذا التوقيت بالذات، وإن كان قصد اغتيال قيادات للمقاومة، أم تفجير النفق فحسب.
هنا يتداخل تقدير العدوّ الموضوعي للظرف
الفلسطيني بالاعتبارات الداخلية له، إذ يبدو أنه واثق من أن قيادة
حماس الحالية لن تردّ على استهداف من هذا النوع، وستكبح الردّ من خارجها، ومن ثمّ فهو يوجّه لحماس اختبارا من نار يكتسي بالتحدّي والثقة بتقدير الموقف.
ومن جهته هو (العدو)، لا ينبغي إغفال اعتباراته الداخلية، من قبيل صراعات النفوذ والقوى والأحزاب والمؤسسات داخل الكيان الإسرائيلي، وارتباط ذلك بسلسلة من المزايدات لا تنتهي، بالإضافة لاعتبارات أمنية من قبيل تجريب قدرة أسلحة جديدة يمتلكها على تدمير الأنفاق.
لا ينبغي إغفال الاعتبارات الداخلية، من قبيل صراعات النفوذ
والقوى والأحزاب والمؤسسات داخل الكيان الإسرائيلي
فالظاهر أنها ضربة محسوبة، قدّرت من جهة خيارات قيادة حماس الجديدة، وقدّرت من الجهة الأخرى الحجم المحدود للهدف، المقتصر على تدمير النفق الهجومي.
غير أن تقديرها لم يأت على مقاسها تماما، وارتقى شهداء نتيجة استنشاقهم دخان التفجير في منطقة محصورة، لا نتيجة الغازات السامّة، كما تقول الصحافة الإسرائيلية، وكما يمكن أن يُفهم حتى اللحظة من تقارير وزارة الصحّة في قطاع غزّة، والتي لم تتمكن بعد من تقييم طبيعة المواد التي استنشقها الشهداء. والسلوك السياسي الإسرائيلي الذي يستدعي تدخّل المصريين لمنع الردّ من قطاع غزّة يقوّي هذا الاحتمال.
سلسلة الاحتمالات تُعزّز من حقيقة التعقيد، وتعظّم
من واقع الغموض وما يتّصل به من حيرة تلفّ المشهد
بالتأكيد، سيطال هذا التحليل قدر كبير من التغيّر؛ في حال ثبتت قصدية الاغتيال في تفجير النفق، بيد أن سلسلة الاحتمالات هذه تُعزّز من حقيقة التعقيد، وتعظّم من واقع الغموض وما يتّصل به من حيرة تلفّ المشهد كلّه.
إن طبيعة الحكم في "إسرائيل" في هذا الوقت، وارتهانها لمزايدات قوى تتّسم بضعف الكفاءة والنزاهة، يجعل من تقدير الأهداف الإسرائيلية مسألة محفوفة بالغموض، بالإضافة للظرف العام الذي يطال الإقليم كلّه وما يتولّد فيه من تحالفات عربية إسرائيلية تقودها شخصيات لا تخلو من الرعونة والتهوّر وجنون العظمة والأنانية المفرطة، سواء لدى الأطراف العربية أو لدى الكيان الإسرائيلي.
تظلّ كلمة هنا، وهي أن ارتقاء الشهداء، في حال لم يكن بتدبير إسرائيلي مقصود، يعني أن سيطرة العدوّ التامّة على الموقف غير متحققة، وأن سيطرته على مآلات أفعاله محالة مهما بلغ الغاية من التدبير والتقدير وأسباب القوّة. فإذا كان ذلك يأتي في مرحلة تاريخية شديدة السيولة، فإننا دائما بانتظار التحولات المفاجئة والكبيرة.