يرتبط ذكر الاستبداد عادة بالحديث عن القيادات السياسية الفاسدة أو الاستعمار. ولم يتغير الأمر كثيرا في العقود الأخيرة. إذ دائما ما ينظر إلى العوامل الأخرى بوصفها توابع أو عوامل فرعية للأصل الاستبدادي الناجم عن فساد القيادة السياسية وحاشيتها بوصفها المحرك الرئيسي لأدوات الاستبداد من وزارات وأجهزة أمنية وإعلامية..إلخ. وكان الأمر يتم دائما تحت مظلة الدولة الجامعة وباسم الدولة والوطن والمصلحة وكل هذه الشعارات التبريرية لأية سياسات ظالمة. لكن منذ عدة سنوات ظهر مصطلح جديد مرتبط بالانتهاكات والتعذيب وأحيانا القتل وهو مصطلح الشركات الأمنية.
كان أول ظهور علني وبروز لهذه الشركات مع فضائح شركة بلاك ووتر في العراق قبل نحو عشر سنوات. بعد ذلك بدأ تسليط الضوء على العمليات الأمنية القذرة التي تتم تحت غطاء جنود مرتزقة ينضوون تحت ما بات يعرف بالشركات الأمنية. والدول تستعين بهذه الشركات لتعفي جنودها من المسئوليات جنائية والقانونية المترتبة على مثل هذه الأفعال.
الأمر بدأ يتغير في الآونة الأخيرة لنجد حضورا بارزا غير خجول لهذه الشركات في الفضاء السياسي والأمني العام بشكل سافر. أبرز مثال على ذلك الخبر الذي نشرته الصحف المصرية قبل أسابيع حول اعتزام وزارة الكهرباء التعاقد مع شركة أمنية خاصة هي "فالكون غروب" لقراءات عدادات الكهرباء. وتصف وسائل الإعلام المصرية هذه الشركة بأنها كيان تابع لجهة سيادية، أي أنها مرتبطة بالنظام الحاكم بشكل أو بآخر. ما الذي يدفع إذا النظام لأن يستقطع من ميزانية وزارة الكهرباء مبالغ طائلة ليعطيها لشركة أمنية تابعة له لمجرد قراءة عدادات الكهرباء، وهي المهمة التي يستطيع أن يقوم بها أي طالب في المرحلة الإعدادية؟
لا شك في أن هناك بعدا أمنيا في المسألة خاصة بعد مشاجرات نشبت بين مواطنين مصريين ومحصلي فواتير الكهرباء على خلفية الزيادة المهولة في قيمة هذه الفواتير. الأمر الذي يعني أن النظام لم يجد أي حل لمشكلة تداعيات الغضب الشعبي المتنامي من الغلاء سوى اللجوء لهذه الحلول الأمنية. ليس معروفا كيف ستدير الشركة عمليات قراءة العدادات، لكن الأكيد أن سمعة هذه الشركة لا تنبئ بأي خير. فقد تعاقدت عدة جامعات مصرية معها قبل عامين من أجل حراسة الجامعات. وهي المهمة التي كانت تعني في حقيقتها قمع المظاهرات الطلابية العارمة التي اجتاحت الجامعات في ذلك الحين، خاصة جامعتي القاهرة والأزهر بعد انقلاب عام 2013. واضطرت 11 جامعة مصرية لإلغاء تعاقداتها مع هذه الشركة بعد أقل من عام واحد إثر فشلها في الحد من الاحتجاجات الطلابية والمظاهرات.
أمر هذه الشركة لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد أيضا للدخول إلى مجال الإعلام والقنوات الفضائية، إذ استحوذت الشركة كل قنوات الحياة المصرية التي كانت مملكة لرئيس حزب الوفد الدكتور السيد البدوي. كما استحوذت على شبكة تليفزيون العاصمة وأطلقت إذاعة جديدة هي راديو DRN دي آر إن. وبالتالي نحن أمام حالة تمدد غير مسبوقة لشركة أمنية واحدة في العديد من قطاعات ومرافق الدولة. هذا التمدد الذي بدأ يغير كثير من المعادلات التي كانت سائدة في الفترة الماضية منها سيطرة رجال الأعمال على القنوات الفضائية الخاصة مستهدفين حماية مصالحهم الاقتصادية وتوفير منصات للدعاية لمنتجاتهم ومغازلة النظام لتحقيق هذه الغاية.
لا أتصور أن الأمر سيقف عند حدود وزارة الكهرباء وشبكات الإنتاج التليفزيوني لأنه يبدو أن مفهوم الشركات الأمنية تغير من أعمال مقاولة من الباطن للأنظمة المستبدة إلى التخطيط والسيطرة الفعلية على أعمال هذه الأنظمة. الأمر الذي يعني أن مفهوم الشركة الأمنية بكل ما تعنيه من ارتزاق وإفلات من العقاب وحرص على الربح بأي ثمن أصبح هو الحاكم للنظم السياسية المستبدة اليوم. أي أن الدولة المستبدة تتحول مع الوقت إلى شركة أمنية منزوعة قشرة التبريرات الوطنية والقومية التي كانت تستغلها قديما لتروج بضاعتها. والحالة المصرية التي ضربنا بها مثالا في هذا المقال ليست استثناء في محيط إقليمي وعالمي بدأ يشرعن وجود مثل هذه الشركات. إن خطورة هذه الشركات على الأمن القومي ليست خافية على أحد. فالأمر لم يعد نظام ومعارضة بعد أن دخله لاعب جديد يحمل السلاح ويتحكم في مقدرات رئيسية في البلاد.
دور التجار المسلمين في نهضة أوروبا
شركات المستوطنات في مرمى حصار جديد