بعد أقل من أربعة أشهر من تحرير القوات العراقية لمدينة الموصل، التي أعلن" داعش" منها ميلاد دولة الخلافة، سقطت العاصمة الأولى (الرقة)، التي تحصن فيها التنظيم، وواجه فيها حصارا شرسا مارسته قوات سورية الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية. لم يكن سقوط الرقة مدويا كما هو الحال في أخبار هذا التنظيم على مدى السنوات الثلاث الماضية، ما يحتاج قراءة ثانية حول القيمة الاستراتيجية لهذا الحدث والظروف المحيطة به.
في الوقت الذي يخرج فيه التنظيم الذي ملأ الدنيا والأخبار من الجغرافيا العسكرية سريعا، بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر من إعلان دولة الخلافة، فهو لم يخرج بعد من الخرائط السياسية التي تتشكل حاليا في إقليم يعاني من ميوعة سياسية واستراتيجية غير مسبوقة، كما لم يخرج بعد من الخرائط الفكرية والثقافية لجيل أنتج هذه الظاهرة، وهذا هو الخطر الكبير الذي سيبقى ماثلا لزمن ليس بقليل.
ثمة سلسلة من الاعتبارات الاستراتيجية التي يرتبها خروج التنظيم من الرقة بهذا الشكل والتي تستدعي وضعها على الطاولة أبرزها:
أولا: الملاذات البديلة؛ على مدى سنوات الصراع كان سؤال أين سيذهب مقاتلو التنظيمات المتطرفة بعد نهاية الصراع وبالتحديد أولئك القادمين من اكثر من 40 دولة، لا يوجد تقدير متفق عليه حول أعداد المقاتلين العرب والأجانب الذين قاتلوا في الأشهر الأخيرة على جبهات الصراع، ولقد سبق أن ظهرت تقديرات متفاوتة بين التقديرات الاستراتيجية الأمريكية والروسية والتقديرات الكردية الأكثر اشتباكا على الأرض مع فصائل التنظيم، الكثير من القراءات تذهب إلى احتمالية توسيع التنظيم لاستراتيجية ما يسمى (الذئاب المنفردة) أو العمليات غير المركزية، وهي وصفة بدأها تنظيم القاعدة وواصلها "داعش" وليست بجديدة.
المهم ماذا سيكون مصير عشرات الآلاف من المقاتلين على الأرض. هناك قراءات ومعلومات تذهب إلى أن استراتيجية التنظيم تقوم حاليا على تدشين جغرافيا استراتيجية بديلة في عمق ما يعرف ببادية الشام والعراق، أي مدن وبلدات عمق الصحراء العراقية الغربية والصحراء السورية الشرقية وتفيد تلك المعلومات أن التنظيم دشن بالفعل منذ فترة عاصمة بديلة وبشكل سري في مدينة البعاج العراقية، ويوجد في تلك المناطق مواقع زراعية غنية، تزرع الحبوب والحنطة، وحتى مخدرات القنب الهندي، "فيها أراضٍ صحراوية شاسعة، وفيها شقوق أرضية كثيرة تصلح مخازن عسكرية ولوجستية، وتصلح معسكرات تدريب، هذه المدن متداخلة عشائرياً مع مدن الحد السوري الشرقي".
ثانيا: إعادة تأهيل المناطق التي خرج منها التنظيم؛ لا توجد إلى هذا الوقت رؤية واضحة لإعادة تأهيل المناطق التي خرج منها داعش سواء في العراق أو سورية، وفي الأخيرة يبدو المشهد اكثر تعقيدا، حيث تفتقد الحكومة المركزية السيطرة على أجزاء كبيرة من هذه المناطق، كما أن غياب رؤية سياسية حول المستقبل السياسي لهذه المناطق يجعل الأطراف المتعددة في موقف الترقب وجسّ النبض. وإعادة التأهيل لا تعني الإعمار وإصلاح البنى التحتية بل تعني الواقع الاستراتيجي وضمان تأمين هذه المناطق وإعادة تأهيل المجتمعات المحلية التي خضعت سنوات لحكم هذا التنظيم تحت مطرقة العقاب الجماعي.
ثالثا: النفوذ الاستراتيجي على الأرض؛ السؤال المهم هل يبقى تقاسم الأدوار الناعم بين الروس وحلفائهم وبين الولايات المتحدة وحلفائها قائما في مواجهة التنظيمات المتطرفة؛ لاحظنا ذلك في تحرير كل من الموصل والرقة، هناك قرابة ثلاثة آلاف جندي أمريكي في شمال سورية إلى جانب قوات سورية الديمقراطية، وسيجد الأكراد انفسهم قريبا اقرب إلى فكرة التعامل مع النظام في دمشق، ومع هذا من المتوقع أن تبقى القوات الأمريكية لأطول فترة ممكنة لتشكل حالة ردع لكل من الأتراك والأكراد معا.
الغد الأردنية