يركز الخطاب السلفي السائد في المملكة العربية
السعودية، والسلفيات الأخرى التي تدور في فلكه على ضرورة الالتزام بالنصيحة السرية لولي الأمر، باعتبارها الطريقة الشرعية الصحيحة الواجب اتباعها في مناصحة أولياء الأمور ومن دونهم من الوزراء والمسؤولين.
وتشبه الأدبيات السلفية العلمية المتداولة منتقدي سياسات
ولي الأمر وممارساته علانية، بما عُرف في تاريخ الفرق الإسلامية بـ"الخوارج القَعَدية" (وهم قوم من الخوارج كانوا يرون الخروج على الأئمة، لكنهم لا يباشرون ذلك بأنفسهم)، وهو تشبيه وتوصيف يلزم منه تبديع كل من يرى جواز
الانتقاد العلني لولي الأمر بحسب باحثين شرعيين.
ووفقا لأستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، محمد السعيدي فإن "النصيحة السرية للحاكم ليست أصلا من
أصول السلفية، إذ إن أصولها هي أصول الإسلام السني الصحيح".
اقرأ أيضا: السعودية تلغي "حفل شيرين".. تعرف على السبب
ووصف السعيدي النصيحة السرية للحكام "بالعلامة الفارقة في الفكر السياسي السلفي، لذلك اشتهرت ووجدتها الجماعات الأخرى نقطة يمكن من خلالها نقد السلفية، والتلبيس على الناس بزعمها أن السلفية تجيز الاستبداد، وتعين الطغاة وتقف معهم إلى آخر هذه الخزعبلات التي تأفكها أفواه المناوئين لها" على حد وصفه.
وتابع السعيدي حديثه لـ"
عربي21" قائلا: "هذا هو سبب اشتهار هذه القضية، وإلا فإن التمسك بمصادر التلقي المقررة، ونبذ الخرافة، والإصلاح الديني، والإصلاح السياسي، هي من أصول السلفية"، متسائلا: كيف لا يكون ذلك والسلفية هي الفكر الإسلامي الوحيد الذي استطاع إقامة دولة دينية؟.
وانتقد السعيدي تلك المواقف التي تهاجم السلفية واصفا لها بـ"العدوان والجور وظلم ذوي القربى، الذي جعل الجميع يضخمون مكانة هذا الحكم الفقهي عند السلفيين ليلمزوهم به"، مضيفا "أن ضعف البعد الفكري لدى بعض "المترمزين" من السلفيين جعلهم يقعون في هذا الفخ، ويقولون مثل هذا القول ويتبنونه" بحسب عبارته.
ورأى السعيدي أن الأدلة الشرعية الأصلية تؤيد اعتماد السلفيين للنصيحة السرية كطريقة لإصلاح الحاكم، في حال إفضاء النصيحة العلنية إلى مفسدة كتهييج الناس ونشر الفوضى والأكاذيب، وتدخل المغرضين وطلاب الفتنة للتأجيج باسم النصيحة.
اقرأ أيضا: فايننشال تايمز: ابن سلمان "يتحرر" اجتماعيا.. أين المحافظون؟
واستشهد السعيدي على وجوب النصيحة السرية للحاكم بالحديث النبوي القائل: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد الذي عليه" واصفا الحديث بالصحة وإن حاول البعض النيل منه لأغراض الجدال والمغالبة.
وتابع أستاذ الفقه وأصوله بجامعة أم القرى قوله: "أما إن شاعت أخطاء الحاكم، وحيل بين أهل النصح والاختصاص من الدخول عليه، وكان خطر ترك النصح أعظم من خطر أدائه، أو كان النظام الذي يترأسه الحاكم يجيز النقد العلني جزئيا أو تفصيليا، فعند ذلك ينبغي على أهل الاختصاص والعلم والمعرفة بذل النصح مع العدل في القول، وعدم الجور في النقد".
من جهته رأى الباحث الشرعي الأردني، صالح اللحام أن "مناصحة ولي الأمر سرا تعتبر طريقة من طرق المناصحة، وليست هي القاعدة العامة التي يجب اتباعها في كل حال".
وأوضح اللحام أن "المنكرات الظاهرة، بما فيها منكرات الحكام والساسة، يجب إنكارها ظاهرا وعلانية، لأن المعاصي والمنكرات إذا انتشرت، وجهر فاعلوها بها، فمن واجب العلماء والدعاة الصدع بالحق، وإنكار تلك المنكرات".
اقرأ أيضا: مثقفون عرب يتضامنون مع معتقلي الرأي بالسعودية
وقال الباحث الشرعي اللحام لـ"
عربي21": "العلماء ورثة الأنبياء، ومن منهج الأنبياء الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعلى العلماء والدعاة سلوك سبيلهم واتباع منهجهم الإصلاحي".
وجوابا عما يحتج به دعاة وجوب لزوم السرية في مناصحة الحكام، عدّ اللحام أن "الحديث الذي يستدلون به ينطبق على حالة خاصة بعينها، ألا وهي استطاعة الوصول إلى الحكام وقبولهم بذلك، ولا يعتبر نصا يخصص عموم الأدلة الآمرة بالصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تشمل الحكام وعامة المسلمين".
وتساءل اللحام "ما ثمرة النصيحة التي تقال سرا، تجاه منكرات ظاهرة ومخالفات شرعية معلنة"؟ مبينا أن النصيحة السرية إن اعتمدت كقاعدة شرعية عامة، وليست كإحدى طرق المناصحة بما يتناسب مع حال الحاكم وطبيعة تجاوزه، فإن هذا السلوك يفضي إلى تعطيل واجب الصدع بالأمر، والقيام بفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وفي ذات السياق، قال محمد أمين السقال الباحث في مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث بمدينة تطوان المغربية، إن "أقوى مستند لهذا الرأي ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يُبد له علانية...".
وأضاف لـ"
عربي21": هذا الحديث واضح في دلالته على ضرورة إسرار النصيحة، ويُصدقه عمليا ما قام به الصحابي أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حينما "قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه" (وهو في الصحيحين).
اقرأ أيضا: تعرف على أول أميرة تتقلّد رئاسة اتحاد رياضي بالسعودية
وأشار السقال إلى "أن من يذهب هذا المذهب يرى في مخالفته له، مخالفة لهدي السلف الصالح ومدعاة لسخط الله، متمسكين بالحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه "السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله".
وطبقا للسقال فإن الدعوة السلفية التقليدية تعتبر التنكب عن مناصحة ولي الأمر سرا، "تشهيرا" به، وتحريضا عليه ما قد يؤدي إلى الفتنة.
ورأى السقال "أن هذه المسألة في المنظومة السلفية لها علاقة بمجموعة من المفاهيم ذات الحمولة الشرعية الوازنة، من قبيل: مفهوم طاعة ولي الأمر "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" (الحديث)، ومفهوم الفتنة، وهي {أكبر من القتل}، ومفهوم "سلطان الله"، والذي يضفي شرعية دينية على الحاكم ويجعله يحكم باسم الله لا باسم الأمة والشعب".
وتابع السقال "وبناء عليه نكون أمام حكم شرعي ثابت يقضي بحرمة إجهار النصيحة للحاكم مع ما يترتب عن ارتكاب هذه "الكبيرة" من فتن في الدنيا، ووعيد في الآخرة".
ولفت الباحث الشرعي المغربي السقال إلى أن "الحكم له ما يقابله من تجارب الصحابة "الشرعية"، ذاكرا ما قام به الحسين بن علي، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن الزبير، وعدد كبير من الصحابة زمن الفتنة الكبرى رضي الله عن الجميع، والتي تجاوزت حد إشهار النصيحة إلى التقريع والتشنيع، وتجاربهم أشهر من أن نفصلها".
وبحسب السقال فإن "المنظور السلفي القائل بحرمة الجهر بالنصيحة، له مقوماته ومسوغاته التي قد تصلح في عصر دون عصر؛ ومفاد ذلك أن علاقة الحاكم بالمحكومين، وخصوصا العلماء منهم لم تعد بالصيغة التي كانت عليها من قبل، فقد يصدق ذلك على نظام الخلافة لا على أنظمة الحكم السائدة في زمان الناس هذا".
اقرأ أيضا: تنديد بمواصلة اعتقال ناشط سعودي منذ 9 أشهر
ومثَّل بالديمقراطية التي صارت أداة للحكم، وروحا تنتظم علاقة المحكوم بالحاكم، وباتت "حرية التعبير" مرآة لهذه الروح، وقد تمحض عن ظهور هذا النموذج الجديد في عملية إدارة الشأن العام (أو السياسة الشرعية باصطلاح الفقهاء) أن صار الحكم "مؤسساتيا" لا فرديا كما كان من قبل، وهو من وجهة إسلامية بمثابة صورة من صور تنزيل مبدأ الشورى في الحكم".
وبناء عليه فقد خلص السقال إلى القول "أرى من غير الملائم أن نستصحب مفهوم النصيحة كما هو في المنظومة السلفية لتأطير كيفية تدخل العالم أو الداعية في شأن الحاكم، هل ينبغي أن يكون نصيحة سرية أو علنية؟ فالسؤال في حد ذاته متجاوز في زماننا؛ ما دمنا نقر بأن الدولة اليوم هي دولة مؤسسات لا دولة أشخاص".
وجوابا عن سؤال: كيف يمكن للعالم أو الداعية أداء واجبه في النصح والتوجيه للحاكم؟ قال السقال "يتعين على العالم الانتظام في مؤسسة من مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني، أو المؤسسات الدينية أو الرقابية الموازية".
وختم السقال حديثه بتأكيده على أن ما "يصدر عن تلك المؤسسات ينبغي أن يكون نابعا عن تحليل للواقع وفق معطيات واضحة ودقيقة، ينبي عليها تحرير تقارير تكشف عن أضرار ومحاذير ما اتخذته السلطة الحاكمة -لا الفرد الحاكم- من قرارات خاطئة، وتقدم بدائل عملية لإصلاح تلك الأضرار وتجنب تلك المحاذير".