في ثقافة الغذاء العربية القديمة والتي مرت إلينا في دروس الأدب فإن الرجل لا يكون أكولا ولا يحبذ أن يكون سمينا والقوة الجسدية ليست رديفة السمنة بل رديفة البراعة (الفتكة البكر) ولا زلت أذكر أستاذي يشرح لامية العرب ويقف طويلا عند "عَاصِبَ البَطْنِ مُرْمِلِ" ويقول إن الرجل الحق لا يكون ذا كرش كبيرة. لكن خارج دروس الأدب التي تسبب لي غربة روحية حتى لأظنني أعيش شيخوختي خارج زمني لم أر إلا الكروش الكبيرة. والتي تصير عندي علامة على نهم وجشع لا يعرفان نهاية.
الكروش الكبيرة في الشارع وفي المطاعم وفي الوظائف وخاصة في السياسة. كروش السياسة كسرت في ذهني المغترب عن واقعه صورة الرجل ذي الفتكة البكر وقدمت صورة الفم الكبير المفتوح لملء بطن لا تمتلئ أبدا. وأجدني أحيانا في الوجبة القادمة هذه الكروش حولت خيالاتي الأدبية إلى كوابيس ولكني لا أشكو إنما أحاول أن أفهم. لماذا تشكلت في بلادي طبقة سياسية نهمة للسلطة وتتخذ لها سبل الجشع الأكول ولا ينعكس من فعلها كرم للآخرين بل غنم لا يكتفى أبدا هذا بلد الكروش التي لا تشبع وأنا الوجبة.
الرئيس البطن
كان على وشك كتابة مذكراته استعدادا بعد عمر طويل، وفجأة حدثت الثورة فجيء به قائدا لها. معجزة في كتب التاريخ. الشيخ الذي عاد زعيما. ومنح فرصة الموت تحت اسم أب الديمقراطية. وكان هذا كافيا لرجل لم يعرف البدانة.
أعاد تأسيس حزب ميت ونفخ فيه روحا شريرة افتكت السلطة بمال أجنبي وحيل غير ديمقراطية كتصويت الموتى. وصار رئيسا منتخبا وأعاد الجلوس في كرسي بورقيبة المنسي وقلده في ربطة العنق والنظارات والجلسة أمام المكتب تواضعا للصحفي الذي يستجوبه. اكتمل مشهد الإشباع الرمزي وقلنا لقد شبع سيدفع المائدة إلى الفقراء ولابأس فالمهم القضاء على الجوع قبل الوجبة الكريمة.
لكنه مد يده إلى الذراع بعد أن أكل الكراع وهو مثل
تونسي يقال لمن أعطي القليل فطمع في الكل. لقد طمع الرئيس في الكل وتبين أن له كرش لا تمتلئ أبدا. إنه يضع ابنه على سكة توريث الرئاسة. لم يكفه ما أخذ لقد أراد توريث البلد لابنه. الكرش الكبيرة صيرتنا إرثا مشاعا من الأب إلى الابن وهو يقتطع من ذكورنا ضعف ما يقتطع من إناثنا وكلنا له وليته يمتلئ.
وما هو إلا مثال
من شبع قبله من سلطة في بلدي؟ كل من مارس السياسة لم يشبع من غنائمها ولا عدل من طموحاته وقال بالتواضع للنتيجة الواقعية. قضت انتخابات 2014 على زعيمين سياسيين كبيرين لم ينتبها إلى أنهما ماتا حتى دفنتهم الانتخابات بل إن أحدهم يتحرك في قبره السياسي الأخير ويفكر في بعث حزب وقد صار الرجل الذي ينشئ حزبا كل ستة أشهر ثم يغادره إلى حزب جديد.
يقبع زعيمان آخران على رأسي جماعتهما السياسيتين منذ 40 سنة لم يتزحزحا. ويحيطان نفسيهما بعائلتيهما ويأكلان وحدهما على قصعة الحزب ويعتبران فعل السياسة هو تمجيد شخصيهما واعتبارهما مكتشفي استدارة الأرض. كرشان لم تشبعا أبدا ونحن بعض الوليمة.
رجال المال البواليع
صنعتهم الدولة منحتهم الأرض مجانا في مواقع أولى على أجمل بحار الأرض ومنحتهم القروض الميسرة وأعفتهم من كلفة والماء والكهرباء ومنحتهم اليد العالمة تحت التربص فلا يدفعون لها أجورا ولكنهم بخلوا بالضريبة الواجبة وطلبوا المزيد.
طبقة لا تشبع أبدا تأكل ولا تتبرز. كروش لبلع المال العام وإخراج النتانة السياسية يدعمون كل من يعيد لهم وضع الامتيازات المالية والسياسية باسم توفير العملة الأجنبية والتشغيل في حين أن أرقام البنك المركزي مرعبة والنقد الأجنبي يستلم في بنوك أجنبية ولا يدخل البلد ولا بنوكه. والتشغيل موسمي تحت الحقوق الدنيا فلا ضمانات اجتماعية ولا تمويل للصحة العامة. البلد الآن رهينة بين أيديهم يبتزون وكل الطبقة السياسية الجبانة والسياسيين يخشونهم ويرشونهم لضمان تمويل مواقعهم واستدامة غنائمهم (رشاهم السياسية).
لا يمولون الثقافة ولا الإبداع ولا يمدون يد المساعدة التطوعية لرفد المدرسة المعطلة ولا الجامعة الفقيرة لا مشروع لهم إلا الكسب غير المشروع بدون حدود.
لست الشنفرى لكنهم لا يشبعون
أتأمل سلوك هؤلاء جميعا وأقول لنفسي: أنا المخطئ هذا هو السلوك الطبيعي (الاجتماعي) لرجل المال والسياسة ولكن المقارنات تفرض علي نفسها فطبقة رجال المال هي من نهضت بأوروبا القوية الآن. لقد بنت الطبقة بلدانها ثقافة ومعرفة وبحثا علميا ولا تزال تمول مجتمعاتها بالوقفيات الكبيرة فكيف لجماعة المال والسياسة عندنا لا نراهم إلا أفواها مفتوحة للاتهام الجائع.
عاصب البطن مرمل من شدة المسغبة كان الشنفرى ولقد نشأت على مبدئه الجوع والكرامة ولا الشبع الذليل لكني لا أفتح عيني إلا على القطط السمان تلتهم الأوطان والشعوب فتجوع الفقراء وتمن عليهم بأجور الحظائر البائسة. أستعيد الشنفرى فأجد قطيعة بين نموذج الرجل العفيف وصورة الرجل التونسي المالي والسياسي.
هل عليهم أن يكونوا صعاليك لأنخرط في الدفاع عن صورهم. لم أطلب ذلك فبي بعض الواقعية بعد ولكني أدافع عن روح وطنية دفع الفقراء من أجلها 400 شهيد لكي يكون البلد لجميع أهله وليس فقط للأكلة النهمين. حق الفقراء في الوطن وأنا منهم دون تواضع مزيف.
الكروش الكبيرة تجوعنا وتجعل وطننا محطة للهجرة القاتلة عبر البحر فقد عجز الشنفرى عن البقاء. الصعاليك (إخوة الشنفرى) يعبرون البحر عاصبي البطون مرملين في البحر أغلبهم لا يصل الضفة الأخرى وآكلو المشاش آلفو كل مجزر لم يتركوا لنا لحما على عظم ووصلوا إلى مشاشنا ونحن نحِنّ إلى الشنفرى كملاذ أخير ونتمسك بالقيمة في مواجهة اللاقيمة.
نبحث في تاريخنا عن الرجال والرجولة لأن قادتنا الاقتصاديين والسياسيين كروش كبيرة مليئة بمشاشنا ولحمنا ودمائنا ولا تعف ولا تكف.
الكروش الكبيرة أعدمت الثورة وأعدمت الأحلام الجميلة التي يبنيها صعاليك البلد الفقراء الصعاليك يبنون صورة للعالم على قواعد من دماء الشباب الشهيد في الميادين ليس لهم إلا تلك الصورة حتى لا يعبروا البحر هروبا لكن على ماذا يفتحون عيونهم في الصباح؟ على الرجل الذي انتشل من الهامش لكي يحمد للشعب ثورته، فحوّل البلد إلى مزرعة عائلية لم يكفه أن مجدته البلاد فبنى عليها سورا بأرواح الموتى في صندوق الاقتراع ويمنحها الآن هدية طازجة لابنه الذي لم يكن أبدا شيئا مذكورا.
الكروش الكبيرة أكبر من أشخاص.. إنها روح ميتة تتسلل من تجاويف التاريخ لتخنق بلد الشهداء الشباب وتجعل من تربى على القيمة عاصب البطن مرمل ينوء بحمل السنون ولا يقوم لغزوة ماحقة فالكروش الكبيرة تحول الثورات إلى ثروات.