كل ما يجري في المنطقة ليس له علاقة بنصر أو هزيمة، بقدر ما هو هندسة الوقائع لترتيب مسار التسوية الذي تقوده الأطراف الدولية ذات التأثير الأكبر في المنطقة.
لا روسيا ولا أميركا معنيتان بهزيمة طرف أو نصر آخر، أو بمعنى أدق فإن معايير النصر والهزيمة لديهم لا تتطابق مخرجاتهما مع تصورات اللاعبين الإقليميين الذين يتساجلون حول من انتصر ومن انهزم في حروب المنطقة.
لا شك أن ثمة تحولات عميقة مسّت جوهر المعادلة الإقليمية وغيرت موازين القوى في المنطقة نتيجة التدخل الروسي، لكن هذه المعادلة لن تهديها روسيا لطرف دون آخر حتى لو أن مصالحها، أقله في الوقت الراهن، أكثر انسجاماً وتناغما مع طرف دون آخر، ذلك أن حسابات الربح على المستوى الإستراتيجي تكون أبعد وأكثر شمولية وعادة ما تركز على رؤية الصورة بشكل كامل، وخاصة بعد أن تحط المعارك أوزارها وينجلي غبار المعركة.
في السياسة الدولية تختلف إدارة المعارك والحروب عن إدارة مرحلة الاستقرار التي تعقبها، ورغم حالة الاستنفار والتوتر التي تكون عليها الدول في حالة الحرب نتيجة حساسيتها الزائدة تجاه المخاطر ولأن البيئة في مجملها تكون بيئة خطرة، إلا أنها تبقى أقل تعقيداً من إدارة السلام الذي يخضع لاعتبارات ومعطيات قد لا تكون ذات تأثير وازن في الحرب.
يضاف إلى ذلك، أن ثمة فارقا لا يدخله الكثير من الذين يتناولون شؤون المنطقة في تقييماتهم، بين حرب دولة وأخرى، وبين حرب كتلك الحاصلة في سورية والعراق وحتى فلسطين، ذلك أنه في النمط الأول من الحروب يحصل أن تنتهي الحرب بكسر أهداف الطرف الأخر أو بتحقيق تلك الأهداف، كالتنازع على أرض محددة أو إسقاط نظامها السياسي، وهنا يكون لنتائج الميدان أثارها المباشرة كما تجد انعكاساتها الفورية، وفي هذه الحالة يكون الميدان العسكري هو الفصل، أما التفاوض والدبلوماسية فإن مهتمها تكون مقتصرة على تثبيت هذا الواقع، وحتى لو لم يجر تفاوض بهذا الخصوص فإن الوقائع تحتاج لجولة عسكرية جديدة لتعديلها أو تغييرها كلية.
في حالة مثل الحالة السورية، لا يمكن أن تتحوّل نتائج الميدان إلى حقائق ثابتة ونهائية إلا في حالة واحدة، وهي أن تتحوّل روسيا إلى دولة احتلال بشكل معلن، وإذا لم يحصل هذا الأمر فإن الوقائع ستبقى متحركة وسائلة ما لم يتم تشريعها سياسياً وحصولها على رضى وقبول جميع الأطراف.
وبما أنه من المؤكد أن روسيا لن تذهب إلى حد الإعلان عن احتلالها رسمياً لسورية، لأن الأمر أكبر من طاقتها وقدراتها، كما أنه لا يفيدها مصلحياً ولا إستراتيجياً، فضلاً عن كونه يهدّد المكاسب التي حققتها جراء تدخلها في سورية والممثلة بإنشاء قواعد عسكرية على شواطئ المتوسط، بما يعنيه ذلك من إضافة لعناصر قوّتها الإستراتيجية على المستوى الدولي، فالمؤكد أنها ستكون مضطرة إلى القيام بتسوية سياسية لضمان تلك المكاسب وثباتها.
في مثل هذه الحروب، غالباً ما تقوم الأطراف الدولية الكبرى بإدراج رغبات اللاعبين المحليين، وحتى الإقليميين، في ذيل اهتماماتها لحظة إجراء الترتيبات النهائية للأوضاع بعد نهاية الحرب، ذلك أنها تنظر لهكذا صراع من منظور إستراتيجي دولي، وبالتالي فإن خصومها الفعليين وكذلك شركاءها في الحل هم هؤلاء، وهي مضطرة إلى رسم هذه التسوية وفق مسطرة دقيقة توضح شكل التوازنات الجديدة ومدى انسجامها وتقاطعها مع طيف واسع من مصالح القوى الدولية.
ثمّة معطيات لا تستطيع الحروب لا تعديلها ولا تغييرها وتبقى حاكمة للتسويات ومحدّدة لمخرجاتها، ومن ذلك مثلاً التركيبة السكانية، كما أن ثمّة استحقاقات لا يمكن تجاوزها أو القفز عنها كإعادة الإعمار، وهذه وتلك لا يمكن تهميشها كما لا يمكن تلفيقها كيفما اتفق، بل لا يمكن بناء عملية سلام وتحقيق حالة استقرار ما لم يتم الارتكاز عليها في جميع مراحل صنع التسوية.
على ذلك، وبافتراض أن السياسة الدولية مجبرة على أن تكون عقلانية بعض الشيء، توخياً لتحقيق المكاسب، فإن الحل في سورية، غالباً، سيتم دمجه بين المعطيات الصلبة والوقائع المستجدة، بمعنى أن الخسارة لن تكون لطرف دون أخر كما ان الربح لن يكون حليف طرف دون أخر، تماماً كما جرى الحل في لبنان سابقاً والعراق لاحقاً، المحاصصة من النموذج اللبناني، واستنساخ الفيدرالية من العراق، غير ذلك لن يكون سوى مراهنات تصلح لمقامرات أخرى، والمقصود هنا إيران وأتباعها.