اتجه الدستور المصرى عام 2014 إلى التوفيق بين حدثيي كانون الثاني/ يناير وحزيران/ يونيو، وسمّاهما ثورتين، واعتبرهما جزءا هاما من نضال الشعب
المصري ضد الطغيان. وفهم الطغيان في ثورة يناير وفي يونيو في الدستور على أنه نظام الحكم، فكان نظام الحكم في يناير هو نظام
مبارك بكل ما يمثله من تحالفات، وكان نظام الحكم في يونيو هو نظام الإخوان المسلمين بكل ما يمثله من تعقيدات، والفرق بين نظام مبارك ونظام الإخوان هو أن نظام مبارك جاء بالتزوير وأما نظام الإخوان فقد جاء في انتخابات حرة بعد ثورة يناير.
ومقتضى هذه النظرية التوفيقية هو أن يونيو استمرار ليناير، مع فارق واحد هو أن يونيو صحّح مسيرة يناير واتجه إلى تحقيق أهدافها. هذه النظرية هي التي تبناها الرئيس
السيسي والمسؤولون المصريون وقتها.
أما النظرية الثانية التي لم ترد في الدستور إلا بالإشارة؛ فهي علاقة الجيش بـ"الثورتين". فالجيش في الثورة الأولى تخلى عن الرئيس ووقف مع ثورة الشعب، كما أن الجيش في الثورة الثانية تخلى عن الرئيس ووقف مع ثورة الشعب، وفق الرواية الرسمية.
ولكن هذه النظرية في شقيها هي التي دفعت بعض الشرائح في المجتمع المصرى إلى التمسك بها والاعتزاز بمشاركتهم في الثورتين، وهذا هو حال الذين شاركوا في يناير ويونيو، ولم يدرك هذا الشباب أنهم شاركوا في يناير مع الإخوان المسلمين ضد مبارك وأن الجيش وقف مع الشعب ضد مبارك، كما أنهم صاروا ضد حكم الإخوان الذي يرونه قد انحرف عن أهداف الثورة، ولذلك اعترض كل الشباب المشارك في الثورتين على موقف الليبراليين والعلمانيين الذين خرجوا من يناير وشجعوا الجيش على العودة إلى السلطة في الثالث من يوليو "لحماية ثورة الشعب الثانية".
وبالفعل، فإن خارطة الطريق التي أعلنها المشير السيسي يومها كانت تغرى بشيء من ذلك، ولكن أدرك الشعب وشبابه بشكل خاص أن هناك مسافة بين يونيو ويوليو، وأن الدستور الذي صنف يونيو على أنها ثورة واعتبر الثالث من يوليو على أنه مساندة لهذه الثورة؛ أدرك هذا الشباب في النهاية أن ما آلت إليه الأوضاع لا علاقة له بيناير ويوليو، فأحدث ذلك شرخا بين الشباب والنظام الجديد، فانقلب النظام الجديد على الشباب الذي قام بالثورتين، واتضحت بعد ذلك العلاقة بين يناير ويونيو ويوليو.
فثورة يناير أرادت أن تحقق أمرين: الأول القطيعة مع الحكم العسكرى وإقامة دولة مدنية ديمقراطية، ويونيو أرادت مع بعض التفاصيل نفس الهدف. فإذا كان شباب يناير اصطفوا مع الإخوان ضد مبارك في يناير التي جمعت جميع أطياف الشعب المصري، فإن يونيو جمعت بين كل هؤلاء بما فيهم المسيحيون ورموز نظام مبارك، ضد الإخوان المسلمين.
هذه هي الحقائق الخام التي يتعين على المؤرخ أن يأخذها في الاعتبار. وقد لوحظ أنه كلما مرت الأيام حدث انفصام بين يناير ويونيو ويوليو، فصار ثوار يناير يعتبرون ما نتج عن يونيو، وليس يونيو نفسها، استغلالا ليونيو لصالح حركة يوليو، وأنهم ظنوا أن يونيو سوف تصحح مسار يناير وتحقق أهدافها.
الذي حدث بعد ذلك هو أن الشعب المصرى قد انقسم انقسامات متعددة حول هذه التواريخ الثلاثة، واستقر في ربوع الطبقة الواسعة من الشباب أن يوليو استغلت يونيو لكي تضرب ثورة يناير وتظهر كثورة مضادة لها وتوفرت العديد من الاشارات والأدلة التي تدعم هذا الافتراض الذي يجب دراسته أهمها أن أهداف يناير قد زالت بأثر رجعي، وأن العكس هو الصحيح تماما، حيث طالبت يناير بالحرية والعيش والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، وللقارئ أن يقارن إلى أين وصلت هذه الأهداف في ظل الوضع الحالي.
هذه المقالة لا تهدف أساسا إلى تبيان الفرق أو العلاقة بين هذه التواريخ الثلاثة، وما المسافة بين نظرية الدستور وبين الواقع الحالي، ولكن هذه المقالة تهدف أساسا إلى الرد على الهجمات الكاسحة ضد ثورة يناير، وهي في الحقيقة الثورة الوحيدة في تاريخ مصر بأكمله ولتفند المقولات المناهضة ليناير من شاهد عيان ومراقب ليس بحاجة إلى شعارات يناير، ولكنه يتمنى أن يتمتع بها عموم المجتمع المصري، لأن انكار هذه الشعارات تجاوز إلى تدني مكانة مصر واحتراق أوراق القوة لديها، بل وتهديد وجودها نفسه سواء كان ذلك بالتدبير أو بالغفلة.
المقولة الأولى هي أن يناير مؤامرة أمريكية، والرد على هذه المقولة سهل ميسور نوجزه فيما يلي:
1. هل يعقل أن تقوم دولة كالولايات المتحدة بإشعال ثورة عند كل مصري وعلى امتداد الأرض المصرية؛ وبين كل المصريين في انحاء المعمورة؟ الذي يصدق هذا يدلني على ثورة في التاريخ بهذا المعنى.
2. هل يعقل أن تتآمر واشنطن على مبارك الذي كان ينفذ تعليماتها قبل أن تنطق بها فكيف نوفق بين مصالح واشنطن في مصر وخدمة مبارك لهذه المصالح وبين التآمر عليه.
3. كيف يستقيم حديث المؤامرة الأمريكية مع حقيقة الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على أوضاع مصر، وكل ما جرى فيها حتى هذه اللحظة؟ والذي يريد أدلة فليرجع إلى التصريحات والأحداث والبيانات.
4. وزيرة الخارجية الأمريكية أثناء يناير، هيلارى كلينتون، قالت في مذكراتها بعنوان "قررات صعبة"؛ إن الولايات المتحدة فوجئت بأحداث الثورة التي عايشت شخصيا كل أيامها وتابعتها وناصرتها ضد نظام متمسك باستعباد المصريين ، ولامت مبارك على تعنته وتسببه في الثورة.
5. هل قامت الثورة على نظام وطني صالح ومستقل يحترم الدستور وحقوق الإنسان ويعادي إسرائيل؟ أم ضد نظام أذل المصريين وسرق ثرواتهم وتصدى لشبابهم وأراق دماءهم وكان يتمنى الانتصار عليهم بالتعاون مع إسرائيل؟
6. هل كانت ثورة يناير سلمية أم عنيفة؟ وأنا أقطع أن الجانب العنيف في بعض فصولها ووقائعها ليس من الثورة في شيء، فالثورة ليست مسؤولة عن انفلات فئات من المجتمع خارج روح الثورة.
7. المعلوم أن الدول ترتب الانقلابات العسكرية، ولكنها يستحيل أن تشعل ثورة، ولكن يمكن أن تساعد عليها عن طريق عدم اعتراضها أو عن طريق زيادة اشعالها بطرق مختلفة كما حدث في الثورات الملونة ضد روسيا.
8. هل كانت شعارات يناير مشروعة أم غير مشروعة؟ هل كانت تدعو إلى ضلال أم تدعو إلى الإصلاح؟ وهل كانت هناك طرق للتغيير غير الثورة ضد نظام أغلق منافذ التغيير وأصر على البقاء والتوريث؟ ولذلك لا يؤخذ بأي أقوال تتناقض مع ذلك بعد أن استيأس أنصار يناير بسبب الضربات الشرسة ضدهم الآن، فيخرج محامي مبارك لكي يبرئه من مؤامرة التوريث.
9. أنه إذا كانت يونيو ثورة مثل يناير، وأن يونيو هى الموجة الثانية ليناير، فلماذا يهاجم أتباع يوليو يناير الآن؟ فلولا يناير لما كانت يونيو ولا كانت يوليو؛ لأن يناير كانت ستضع الشعب المصرى سيدا لقراره في نظام ديمقراطي مدني. وإذا كانت ثورة يونيو تزعم أنها أزاحت الحكم الديني، فهل طلبت أن يحل محله الحكم العسكري وأن تتم عسكرة البلاد كلها؟
10. الثابت أن يناير كانت تريد إزاحة الحكم العسكري ولا تقبل الحكم الديني، وإنما دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
11. المعيار الحاسم هو موقف إسرائيل: لماذا انزعجت إسرائيل من يناير، بينما رحبت بيونيو ويوليو، وهي قد نشأت خصيصا لإفناء مصر والقضاء عليها؟ وهل تذكرون تسلق الشباب إلى السفارة الإسرائيلية وفرار السفير ليلا وتعليمات واشنطن لمصر بوقف ذلك، وموجة العداء؟ ولماذا ظهر المطالبون بالتطبيع مع إسرائيل فقط بعد يونيو ويوليو ولم يجرؤ أحد منهم أن يظهر أثناء يناير؟
إذا كنتم تعترفون بيناير وأن يونيو تصحيح ليناير؛ فنفذوا شعارات يناير، وأوقفوا مطاردة أنصار يناير وأوقفوا تشويه مغزى ميدان التحرير؛ لأن ثورة يناير شرف لكل مصري حتى لأنصار مبارك.
عودوا إلى مصلحة الوطن وتخلوا عن الصراع على السلطة، فمصر المسرح الكبير مهدد بالفناء بسبب سوء الفهم والانقسام والجشع، وتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة وتصفية الحسابات على جثة الوطن.
يناير ويونيو حركتان شعبيتان وإن تفاوتت أعداد الذين خرجوا فيهما. فلماذا قاومت الشرطة يناير وتعاونت مع يونيو؟
وأخيرا، فإن يناير لم تكن ثورة الشعب ضد الشرطة، ولكن الشرطة هي التي قبلت أن تكون أداة الحاكم لقمع ثورة الشعب. فالثورة والشرطة ملك للشعب المصري وتاريخه، وذكرى يناير هي فخر لثورة الشرطة الباسلة في ذات التاريخ ضد الإنجليز، ولا يجوز أن تستمر روح الانتقام بين بعض فئات الشعب وبين الشرطة، ومن العار أن يستمر بعض رجال الشرطة في هذا الاتجاه الخاطئ.