هل تُدرك معنى أن تكون روهنجيا في عصرنا هذا؟ هذا يعني أن ترحل بلا رجعة عن موطنك الذي عاش فيه أجدادك جيلابعد جيل منذ القرن الخامس عشر الميلادي - على أقل تقدير - وإلا فسوف تُباد أنت وكامل عائلتك بأبشع صورة وبدون أية مقاومة من طرفك وإلا فأنت إرهابي، بينما يتفرج العالم بأجمعه على مأساتك دون أن يُحرك ساكنا كما لو أنك، وبوصفك مسلما، لست بشرا مثل سائر بني البشر؛ أن تكون روهينجيا فهذا يعني ببساطة أنك تنتمي - حسب تعبير الأمم المتحدة - إلى "أكثر الأقليات معاناة من الاضطهاد في العالم" فقط بسبب دينك ولون بشرتك.
هذه هي مأساة
الروهينجيا الصامتة، أقلية مسلمة تعيش منذ عقود في أسفل السلم الاجتماعي بالميانمار، والتي اشتدت وطأة الجرائم المُرتكبة في حقها منذ شهور من اغتصاب جماعي للنساء وتقتيل للمدنيين بل وحتى للأطفال وللرضع بكيفية متوحشة، مما دفع أزيد من 140 ألف روهينجيا إلى الفرار نحو الجارة بنغلاديش، التي لا تستطيع إعلان فتح حدودها أمامهم، مخافة أن يشجع هذا الحكومة
الميانمارية على ارتكاب المزيد من
المجازر المروّعة في حق الروهينجيا من أجل تحقيق هدفها "الاستراتيجي" وهو "تطهير" منطقة أراكان من سكانها
المسلمين بلا رحمة، وإحلال الأغلبية البوذية مكانها رغما عن أنف العالم.
هذا الإجرام الميانماري في حق الروهينجيا ليس وليد اليوم، بل مهّد له بالأساس قانون عُنصري صدر سنة 1982 إبّان فترة الحكم العسكري، تمّ بموجبه حرمان هذه الأقلية من الجنسية الميانمارية، حيث يُعتبر أفرادها مُهاجرين غير قانونين من البنغلاديش، وهم صاروا بالتالي يشكلون أكبر مجموعة بشرية من عديمي الجنسية بين شعوب العالم، بل وتُمارس عليهم ميانمار شتى أنواع التمييز العنصري في قطاعات التشغيل والتعليم والصحة وباقي الخدمات الحكومية، كما تمنع عنهم حرية التنقل والتملك، وتفرض عليهم سياسة تحديد نسل متشددة دون غيرهم، يُضاف إلى هذا أن نسبة وفيات الأطفال في هذه المنطقة تعتبر من الأعلى النسب في العالم بسبب غياب شبه كامل للتغطية الصحية.
أما الانتقال الديمقراطي الذي شهده البلد ابتداء من سنة 2011 فلم يكن إلا وبالا على هاته الأقلية التي تعرضت سنة 2012 لمذابح بشعة، تأسست على إثرها مقاومة روهنغية للدفاع عن النفس من المجازر التي يرتكبها الجيش والجماعات البوذية المتطرفة وعلى رأسها "حركة 969"، التي وصفت مجلة التايم الأمريكية زعيمها بـ"وجه الإرهاب البوذي". غير أن الحكومة الميانمارية استغلت عمليات المقاومة للتنكيل بالروهينجيا بدعوى "محاربة الارهاب" سرعان ما سوّقتها بعض وسائل الإعلام العالمية، وللأسف حتى العربية منها. وابتداء من سنة 2016 ومرورا بسنتنا هاته تكررت من جديد تلك المجازر الوحشية، والتي وصفتها الأمم المتحدة سابقا بأنها "تطهير عرقي"، في حين أجمعت معظم التقارير أن المجازر الراهنة تفوق في بشاعتها التي وقعت سنة 2012، وكل هذا في عهد رئيسة حكومة الميانمار، التي مُنحت لها يوما ما جائزة نوبل للسلام!
وهنا أتساءل كما تساءل من قبل الكاتب والناشط الألماني يورغنت ودنهوفر: لماذا لا ترسل الأمم المتحدة قوات حفظ السلام لحماية هاته الأقلية التي تتضاءل يوما بعد يوما، حيث نشر موقع "فورين بوليسي" سنة 2015 مقالة تفيد أن أقلية الروهينجيا قد تختفي من الوجود جراء هاته الإبادة العرقية المستمرة. ولنتخيل معا كيف ستكون ردة فعل المجتمع العالمي إزاء هذه الإبادة لو كانت الروهينجيا تدين بغير الإسلام.
ولا يزيد الصمت العالمي المُريب هاته الأقلية إلا معاناة، فقضيتها تعتبر من أكثر القضايا المسكوت عنها على صعيد العلاقات الدولية، ولا يكفي أبدا أن تقود دولة واحدة، مثل تركيا، معظم الجهود الدبلوماسية لمعالجة هاته المأساة الإنسانية، فلا بد هنا من إيقاظ الضمير الإنساني العالمي ولفت انتباهه للمعاناة المضاعفة لهاته الأقلية بشتى الوسائل الممكنة. ويبدو من المهم جدا في الظروف الراهنة أن يتصدى لهاته المهمة الإنسانية ناشطون من مختلف الجنسيات والمعتقدات عبر صياغة ونشر شعار تضامني أو رمز احتجاجي موحد، يُعبّر بوضوح عن مأساة هاته الأقلية من الناحية الإنسانية بالدرجة الأولى. فقد أثبتت شعارات وأيقونات ورموز نضالية عابرة للقارات، مثل "يوم الأرض" و"رابعة" و"احتلوا وول ستريت" و"قبضة اليد المضمومة" مدى قوتها التعبيرية وقدرتها الفذة على حشد التأييد العالمي للقضايا الإنسانية المُلحة التي تعكسها. وفي الحالة الروهينجية، فإنه من الضروري أن تنصب الجهود المبذولة في الضغط الشعبي والاحتجاجي المتواصل لتتمكن هاته الأقلية من استرداد وطنها المسلوب وكرامتها البشرية المهدورة وكافة حقوقها الضائعة وضمان المحافظة عليها وفق القوانين الدولية، وإلا فقد تنتقل عدوى الإبادة البوذية للمسلمين إلى دول مجاورة مثل سريلانكا، وهذا ما لا نأمله.