داخل مسجد، يلتحق المحامي
مصطفى خلف بالدكتور عبد النور، المحامي المدافع عن الحكومة والوزراء في القضية التي رفعها الأول بعد حادثة دهس قطار لحافلة مدرسية أودت بحياة عشرين تلميذا وتلميذة.
الدكتور عبد النور: انت عاوز توصل لايه بالظبط؟
مصطفى خلف: للعدل يا دكتور. العدل ايلي تعلمناه وآمنا به ودعت له الأديان كلها.
الدكتور عبد النور: ااااه! عظيم. طب ايه بقا العدل في أنك تختصم الوزراء في قضية زي دي المتهم فيها معروف ومحدد من غير أي لبس.
مصطفى خلف: قصد حضرتك سواق الأتوبيس وعامل التحويلة؟
الدكتور عبد النور: أو حتى هيئة السكك الحديدية نفسها.. انت عرفت أن الكشف الطبي ع السواق اتضح أنه متعاطي للمخدرات.
مصطفى خلف: عارف.. عارف أنه مذنب ولازم يأخذ جزاءه.. بس مش هو لوحده.
الدكتور عبد النور: طبعا، هو وعامل التحويلة وملاحظين السينفورات و…
مصطفى خلف: يا افندم، أرجوك تفهمني. الاتوبيس مدخلش في القطر كده من نفسه ولا حتى صدفة.. فيه مسؤول ورا ده كله هو ايلي وصل مزلقانات القطر أنها تكون من غير إشارات وهو ايلي خلا سواق الاتوبيس المفروض أنه مسؤول على أرواح البني ادمين ياخد مخدرات.
ليس هناك من حوار يمكنه أن يلخص واقع الحال بعد حادث تصادم قطارين بمصر منذ أيام، كحلقة أخرى من مسلسل حوادث
القطارات التي ابتليت بها البلد من عقود، أفضل من هذا المشهد من فيلم (ضد الحكومة- 1992) للمخرج عاطف الطيب. الحادث/المجزرة الذي أودى بحياة عشرات
المصريين لم يكن الأول ولن يكون الأخير ما دامت نظرة السلطة الانقلابية للقطاعات الخدمية منطلقة من مبدأ الربح والخسارة وشعار (وأنا كمان غلبان ومش قادر) التي حولت سكك حديد مصر وقطاراتها إلى مقابر جماعية بإشراف حكومي.
يستمر الحوار بين مصطفى خلف والدكتور عبد النور..
الدكتور عبد النور: ماهو ده بيحصل في أي مكان في العالم.
مصطفى خلف: أيوه بس بيبقى بحساب وبتتحدد المسؤوليات بدقة. كل واحد بيأدي واجبه ولما يحصل الخطأ يبقى معروف مين بالظبط المخطئ ويتحاسب.
الدكتور عبد النور: يعني انت عايز وزير النقل يعدي بنفسه على السنافورات سنافور سنافور ويطمن أن الاشارات شغالة؟
مصطفى خلف: لازم يبقى فيه مسؤول حقيقي مش كبش فداء يتحاسب وياخد جزاءه. المسؤول عن وسائل النقل في البلد هو وزير النقل مش عامل المزلقان، والمسؤول عن تأمين حياة تلاميذ المدارس وحمايتهم هو وزير التربية والتعليم مش سواق اتوبيس الرحلة، والمسؤول عن الاثنين رئيس الوزراء. القضية لازم تطرح كده.. ايلي راحوا بني آدمين، بشر، أرواح بريئة ملهاش ذنب. لو المسؤولين عن ضياع حياتهم اتحاسبم وخادوا جزاؤهم حيفكروا ألف مرة بعد كده علشان ميوقع خطأ أو إهمال مشابه.. الإهمال لما يوصل للدرجة ده يبقى جريمة بشعة لابد من التحقيق فيها.
الدكتور عبد النور: اااه.. متيجي ننسى الكلام الكبير ده
مصطفى خلف: حضرتك علمته لنا وكتبته في كتب.
الدكتور عبد النور: البلد مش مستحمله هزات..
مصطفى خلف: البلد مش حتتقدم إلا بمواجهة أخطائها.. مش عيب اننا نبقى بلد متخلفة لكن العيب الحقيقي أننا نحط راسنا في الرمل وما نواجهش التخلف ده.. إذا كان حد قلبه ع البلد دي صحيح لازم يوقف يحاسب ويتحاسب.
في 14 أيار/ مايو الماضي، قدم وزير النقل المصري عرضا أمام رئيس الانقلاب حدد فيه مسارات خطة تطوير خطوط السكك الحديدية. لكن عبد الفتاح السيسي أبى إلا أن يمارس هوايته المفضلة في إحراج "موظفيه" وارتجال رؤيته وفلسفته في "الإصلاح" المعتمدة على أن التكلفة يتحملها المواطن وإن رفض ذلك فعليه تحمل التبعات. النتيجة أن الاعتمادات المخصصة كانت دون مستوى الانتظارات ليتواصل معها سيل تكرار الحوادث وسقوط الضحايا.
تدخل السيسي في الاجتماع ذاك كاف لمن لديه "قلب ع البلد" لتوجيه تهمة الإهمال العمد المؤدي للقتل إليه. لكن واقع الحال في "أرض الخوف" أن "الرئيس" يحاسِب ولا يحاسَب، وهو ما دفع الأخير لإصدار أوامر بتشكيل لجنة تحقيق، أغلبها من العسكر، للبحث عن أية دلائل تبعد التهمة عن "سيدها" وترمي بها في ساحة "العامل البشري"، وربما تؤكد الاتهامات الموجهة للمساجد بأنها تقف وراء غالبية الحوادث، كما جاء على لسان وزير النقل ذات تصريح، قبل أن يعيد المغني محمد منير التأكيد عليه وهو يستعد للرقص على جثث الضحايا في حفل أصر على تنظيمه ليلة الحادث دون خجل أو قليل حياء. السيسي "شدد على ضرورة محاسبة المقصرين فورا، وعدم التهاون معهم أيّا كانت مواقعهم".
في الفيلم رفع مصطفى خلف التحدي حتى مستوى رئيس الوزراء وتوقف، لكن زعيم الانقلاب أهون من أن يصل بالأمر إلى هذا المستوى، وهو الذي أكد في رسالته لأهالي الضحايا عن "أن الدولة ستسخر كل إمكاناتها لتوفير الرعاية الكاملة لهم وللمصابين".
من يدري فربما حققت المليارات التي أرادها "الرئيس"/ تاجر الشنطة "استثمارا" سهلا بالبنوك، فائدة يستفيد منها ورثة الضحايا بدل أن تقيهم شر الفاجعة والمأساة.
إحصائيات الحوادث المتكررة لم تكن كافية لتبرير أهمية تطوير القطاع باعتباره ناقلا لملايين المصريين و"فخرا" لبلد عرفت أول خط سكة في إفريقيا. والأبواق الدعائية مفتوحة على ترديد أنشودة " ماهو ده بيحصل في أي مكان في العالم" كما قال محامي الحكومة الدكتور عبد النور بالضبط، قبل أن يضيف أن " البلد مش مستحمله هزات.." وهو خطاب حمله فيلم (ضد الحكومة) منذ ربع قرن ولا زال صالحا للاستخدام حتى اليوم.
لم يكن غريبا أن نسمع تلك التبريرات المبرأة للدولة و"رئيسها" من دماء الضحايا، من إعلام حرض قبل أربع سنوات بالضبط على اقتراف أكبر مجزرة ارتكبها الجيش المصري وزعيمه الانقلابي في حق المعتصمين بميداني رابعة والنهضة بإيعاز من دول بالمنطقة رأت في التجربة الديمقراطية بمصر تهديدا لمستقبلها. هي نفس الوجوه حاملة لنفس خطاب الكراهية، ازدادت معه قبحا وهي التي ارتضت القتل والذبح نهجا وأسلوبا.
وليس غريبا بالتبعية ألا يتحقق العدل ومحاسبة المسؤولين الحقيقيين عن حادثة القطارين ما داموا تحت حماية "مجرم حرب" وصل للحكم على بقايا جثث أطفال ونساء ورجال أحرقوا أحياء دون أن تصله يد العدالة المحلية أو الدولية، بل فتح له "راعوها" الأبواب مشرعة لدرجة أن تغزل أحدهم ب"جزمة" المشير.
يقول مصطفى خلف في مرافعته في فيلم (ضد الحكومة) معلقا على حادثة القطار:" القضية أيها السادة أخطر من ذلك بكثير. إنها قضية بلد بكامله نخر السوس أعمدته وأوشك بنيانه على السقوط. فإما أن تمتد الأيادي وتتشابك وتعمل معا أو فالمصير غريب وموحش".
في مجزرة رابعة، حُصِر الخلاف كله في أرقام الضحايا، وفي حادثة القطارين وما سيتلوها لن تعدم حكومة الانقلاب الأرقام المضللة عن اعتمادات الصيانة والتطوير وبيانات الإنجازات والنجاحات. لكن الأكيد أن الوطن لا ينحصر في أرقام ونسب فوائد وإحصائيات. الوطن مرادف للعدل، وفي غيابه يتحول إلى مجرد أرض للخوف..