نُفذت عملية عسكرية بطولية في 14/7/2017، استشهد أبطالها الثلاثة الآتون من أم الفحم، ليخوضوا غمارها في
القدس، ولتمتد إلى داخل باحة المسجد
الأقصى، وقد أسفرت عن مقتل جنديين واستشهاد الشبان الثلاثة، وهم من عائلة الجبارين. ما يؤكد أن العملية رتبت بشكل عفوي من قِبَل منفذيها، وهو الذي أمّن نجاحها بتجاوز كل أجهزة الكشف الأمني عبر الهواتف الذكية، أو "الخيوط" التي تتعاون أمنيا مع قوات العدو.
على أن هذه العملية الشجاعة والذكية لم تفلت من أن يدخلها العدو في إطار استراتيجيته الرامية إلى السيطرة العسكرية على المسجد الأقصى. وهو ما فعله فورا. وذلك كجزء من استراتيجية الكيان الصهيوني الذاهبة إلى التوسع في استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس والاستيلاء الكامل على المسجد الأقصى لإنهاء وضعه القائم على "ستاتيكو". فمنذ احتلاله 1967 استمر على هذه الاستراتيجية وصولا، في نهاية المطاف، إلى هدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه.
هذه السمة الأولى- الحقيقة الأولى، في سياسة العدو، يصر محمود عباس على تجاهلها، والسعي لحل الدولتين التصفوي: (78% للصهاينة، و22% للفلسطينيين، وإنهاء حق العودة، وأيّة حقوق أخرى) وقد شارك محمود عباس هذا الوهم، أو هذا المسعى لسراب خلّب، تيار واسع
فلسطيني وعربي منذ زمن بعيد، ولا سيما بعد مشروع النقاط العشر "البرنامج المرحلي" عام 1974 مرورا بإعلان الدولة عام 1988 وصولا إلى اتفاق أوسلو 1993 وتداعياته حتى اليوم. فهذا التيار الفلسطيني- العربي- الدولي أصر، ولم يزل، على ذلك الحل التصفوي والوهمي في آن واحد، وذلك بالرغم من كل الوقائع والحقائق المتتالية المقدمة من جانب القيادات الصهيونية مؤكدة على استراتيجية استيطان الضفة الغربية وتهويد القدس والاستيلاء على المسجد الأقصى، وتهجير المزيد من الفلسطينيين الذين بقوا في الأرض بعد حربَيْ 1948 و1967.
لعله من المفهوم أن يتجاهل العدد الأكبر من مسؤولي دول العرب، ومن دول العالم هذه الحقيقة، لأسباب تخص مصالح ضيقة أو سياسات مشبوهة. ولكن ليس من المفهوم أن يستمر فلسطيني واحد على هذا الوهم وهو يرى أرضه تتآكل، وقدسه تُهوّد، والمسجد الأقصى تنتهك حرماته كل يوم.
وهنا وصل المنطق المعاند للواقع مداه مع محمود عباس الذي سارع لاستنكار عملية شبان أم الفحم الثلاثة. وراح يتأمل ألاّ يستغل نتنياهو السيطرة على المسجد الأقصى سيطرة عسكرية كاملة لم تحدث منذ 1967 حتى اليوم. وقد منع الآذان وصلاة الجمعة. وأبقى إغلاقه لمدة ثلاثة أيام. ولكنه عند إعلان فتحه للمصلين المسلمين من جديد تبين أنه مصر على استمرار احتلاله بالكامل من خلال فرض الدخول إليه من بوابتين فقط وبعد المرور من أجهزة الكشف عن المعادن. الأمر الذي لم يترك مجالا للشك في أن الحكومة الصهيونية قررت التقدم خطوة أخرى باتجاه السيطرة الكاملة على المسجد الأقصى دخولا إليه وخروجا منه، وبتجاهل سافر لاتفاقه مع الأردن وم.ت.ف (محمود عباس) بإبقاء السيادة عليه لهيئة الأوقاف الإسلامية التابعة للحكومة الأردنية. فالتحدي هنا انتقل إلى وضع كل من الحكومة الأردنية وسلطة رام الله بقيادة محمود عباس في حالة شديدة الحرج إلى حد الفضيحة المدوية إذا مُرر، وسُكت عن هذا الوضع الجديد الذي ينهي ما عرف بالـ"ستاتيكو"، ناهيك عن التفاهمات والاتفاقات.
على أن جماهير القدس وبكل هيئاتها التمثيلية الإسلامية والمسيحية، وكذلك الحراك الشبابي المقدسي الذي تشترك فيه كل فصائل المقاومة، والحراكات الانتفاضية اعتبروا أن معركة فاصلة فتحها نتنياهو ضدهم. ومن ثم جاء "أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ" فكانت المواجهات منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه عن إغلاق المسجد الأقصى ثم فتحه من خلال المرور عبر البوابات الإلكترونية. وبهذا تحركت جماهير القدس ومن تدفق من جماهير الضفة الغربية، أو من مناطق الـ48، ثم تحركت غزة، لتندلع معارك ومواجهات أخذت تضم الآلاف أمام بوابات المسجد الأقصى وعدد من بوابات السور حول البلدة القديمة. ثم أعلن يوم الجمعة في 21/7/2017 يوم الغضب والانتفاضة والمواجهات ليصبح عشرات الآلاف بعد أن كان آلافا في كل موقع.
أما على مستوى الأردن الرسمي فتقدم باحتجاج شديد. وقد سبقه موقف شجاع من قبل هيئة الأوقاف في المسجد الأقصى، والتابعة له، برفض العبور من البوابات الإلكترونية.
وجاءت المفاجأة فعلا يوم 21/7 من خلال إعلان محمود عباس تجميد كل العلاقات مع حكومة نتنياهو وهي خطوة تشير إلى أن احتمال فتح لسياسة التنسيق الأمني، والهروب، أو إجهاض، أية مواجهة مع
الاحتلال سواء أكان في القدس أو الضفة أو حتى في السجون، قد فاض بها الكيل. ولم يعد من الممكن الاستمرار في تبنيها. ولهذا استُقبِل قرار محمود عباس بالدعم من قبل فصائل المقاومة الأخرى مع المطالبة بالثبات عليه وتعزيزه لتحقيق وحدة وطنية شاملة دفاعا عن الأقصى، ومواجهة للاحتلال والاستيطان والتهويد.
هذا الموقف الشعبي المقدسي الموحد، ثم الضفاوي والغزاوي "والثامن أربعيني" ثم قرار محمود عباس بتجميد كل العلاقات وما لقيه وسيلقاه من دعم عربي وإسلامي وعالمي، ومن النفس الطويل في المواجهة سوف يتكلل، لا محالة، بتراجع نتنياهو وليّ ذراعه.
الأمر الذي يفرض على قيادات هذه الانتفاضة في القدس والضفة الغربية وعلى المستوى الفلسطيني العام، بما يشمل الفصائل والحراكات الشبابية أن يوحدوا الصفوف. وأن يحوّلوا الشعار بما يتعدى استعادة الوضع السابق في المسجد الأقصى، وإزالة البوابات الإلكترونية، على أهميتهما وضرورتهما، إلى انتفاضة شعبية طويلة الأمد. كما يحدث الآن في موضوع المسجد الأقصى. ولكن من أجل دحر الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية، وتحرير القدس ومسجدها الأقصى وسائر المقدسات المسيحية والإسلامية من الاحتلال والتهويد. وقد أثبتت موازين القوى والظروف السائدة العامة، ومنذ إضراب الأسرى، ومع اندلاع التحركات الشعبية الراهنة أنهما يسمحان بليّ ذراع نتنياهو بالرغم من عنجهيته وما يظهر على السطح من سلبيات.
وباختصار ما هو مطلوب يجب ألاّ ينحصر بموضوع المسجد الأقصى بالرغم من أهميته الدينية والحضارية والمركزية والاستراتيجية، ليشمل السبب الرئيسي وراء مشكلة السيطرة على المسجد الأقصى، ألا وهو الاحتلال والاستيطان والتهويد في الضفة الغربية والقدس. فما لم ندحر هذا الاحتلال ونصفي الاستيطان وننهي التهويد سوف تتجدد المعركة مرة أخرى، وأخرى، إلى ما لا نهاية، سواء بالنسبة إلى عودة السيطرة على المسجد الأقصى، أو قضية الأسرى، أو ما يرتكب من جرائم، أو من مصادرات للأراضي والتوسع في الاستيطان.
فما دامت هذه المعركة قد فتحت فلا بد من الاتفاق على الاستمرار فيها للتخلص من الاحتلال والاستيطان والتهويد من حيث أتى. وبعد ذلك لكل حادث حديث. فمن أراد الهدنة وهبها، ومن أراد دويلة صار أقرب إليها، وإن مخطئا، ومن أراد أن يواصل الدرب للتحرير الكامل من النهر إلى البحر يكون قد تقدم خطوة إلى أمام في هذا الاتجاه. وبالمناسبة من أراد أن يُوّحد بين الضفة الغربية وقطاع غزة فلن يتحقق حلمه إلاّ بالاتجاه ضد الاحتلال والاستيطان والتهويد. فما لم تحرر الضفة الغربية لا قيمة لوحدة مع قطاع غزة على حساب تجريدها من سلاح المقاومة وأنفاقها. بل سيكون ذلك عودة لاحتلال قطاع غزة. وذلك عندما يصبح مكشوفا لجيش العدو كما هو حال الضفة الغربية.
إن الأهداف التي يمكن أن تتوحد عليها كل فصائل المقاومة ومختلف الاتجاهات بما في ذلك الوضع القائم في كل من الضفة الغربية والقطاع هي وحدة الموقف، والانتقال إلى المواجهة، دفاعا عن المسجد الأقصى في هذه المعركة، كما في فتح الجبهة لدحر الاحتلال والاستيطان بلا قيد أو شرط.
وبالمناسبة ستثبت التجربة الراهنة في المعركة من أجل الأقصى بأن تصعيد الانتفاضة الشعبية إلى المواجهات الشاملة والعصيان المدني هي الاستراتيجية القادرة على تحقيق هدفيْ تحرير الضفة الغربية والقدس وتفكيك المستوطنات واستنقاذ المسجد الأقصى، وبلا قيد أو شرط.
فالاحتلال يجب أن يرحل من القدس والضفة الغربية بلا تقديم مكاسب له أو خضوع لشروطه. والاستيطان يجب أن يُفكك من القدس والضفة الغربية، وبلا أي شروط أو مكاسب للكيان الصهيوني. فالاحتلال والاستيطان غير شرعيين، ومخالفان للقانون الدولي والمواثيق الدولية. ويجب ألّا يكافأ مقترفهما. ولهذا ضرورة الإصرار على "بلا قيد أو شرط". أما ماذا بعد فلكل حادث حديث، وما ينبغي للفلسطينيين أن يختلفوا قبل أن ينقذوا الأرض ويحرروها، ولكل بعدئذ برنامجه ومشروعه.