في سابقة من نوعها، قامت قوات الاحتلال الصهيوني بإغلاق المسجد
الأقصى لأول مرة في تاريخه، ومنع المصلين من الدخول، ومنع إقامة صلاة الجمعة لأول مرة في تاريخه، وهذا الحدث الجلل يجعلنا نقف عدة وقفات معه، من عدة زوايا مهمة.
الزاوية الأولى: أن هذه العملية أعادت أخبار المسجد الأقصى المبارك للاهتمام به، بعد أن كانت الحفريات
الإسرائيلية تعمل تحت بنائه المبارك، في صمت وسرية تامة، فمن فوائد هذا الإجراء الأخير بإغلاقه، أن ظهر للعيان ما يفعله الكيان الصهيوني، وهو ما أعاد أخبار الأقصى للصدارة، واهتمام المسلمين، وهو أمر لفت إليه القرآن الكريم النظر، ليتم الاهتمام به، فقد جعل الله رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج من المسجد الحرام للمسجد الأقصى، وقد كانت بالإمكان العروج للسماء مباشرة من الأرض، لكن لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، جعل الأقصى نهاية الإسراء، وبداية المعراج، ليظل هذا الشعور الديني يقظا ودائما في ضمير المسلم، وهو ما أيقظ هذا الشعور بما تم فعله بإغلاق الأقصى.
الزاوية الثانية: أن أحداث الأقصى الأخيرة، فضحت لنا ما يسمون بالصهاينة
العرب، سواء على مستوى الحكام، أو الأنظمة، أو الكتاب والمثقفين، بل وبعض المشايخ، الذين ظنوا أن ترديد أباطيلهم على أهلنا في فلسطين، وجعل الأقصى وفلسطين وقضيتها والخيانة والولاء لها، مجرد رأي، تخرج عن دائرة الدفاع عن المقدس، إلى العصبية للبلاد، وذكرتنا برئيس وزراء مصر في أربعينيات القرن الماضي، عندما سئل عن فلسطين، فقال: أنا رئيس وزراء مصر، ولست رئيس وزراء فلسطين!! رغم أن إدارة (غزة) كانت تخضع لحكم مصر، ثم بدأت تضيع فلسطين رقعة تلو الأخرى على يد حكم العسكر، وحكم غيرهم.
كان هؤلاء الزعماء ومن يتبعهم يعملون في الخفاء، ويتسترون بأي ستار آخر، ويخفون موقفهم الحقيقي من الأقصى وفلسطين، خوفا من العامة من الناس، الآن هذه الأحداث وما قبلها، كشفتهم بوضوح، وأزالت ورقة التوت، ليحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وينتهي خداع الناس، ويتمايز كل فريق بموقفه الحقيقي، سواء كان خليجيا، أم مصريا.
الزاوية الثالثة: وهي أنها كشفت من يهتم بشأن الأقصى، وعلى رأسها: أبناء الحركة الإسلامية في مصر، وأن المؤسسات والجماعات الحية النابضة بالحياة والوطنية في مصر كانت هي عامود الخيمة في ذلك، وعند غياب هذه النواة الصلبة استطاعت الحكومات والأنظمة الفاسدة المستبدة فرض سيطرتها، والتعتيم على قضية الأقصى، وتبريد الشارع المصري والعربي نحوه، فعندما تذكر فلسطين، كانت تبرز دوما النقابات في مصر: نقابة الأطباء والمهندسين والمحامين، وقوى مدنية سياسية، ومؤسسات دينية كالأزهر وعلمائه، كانوا يقفون صفا واحدا في نسيج وطني موحد، فكان الخلاف يتسع للقضايا السياسية، إلا قضية فلسطين والتطبيع مع إسرائيل، فهذه قضية تتوحد فيها المؤسسة الدينية في مصر: الأزهر والكنيسة، وكذلك القوى الوطنية الأخرى بدءا بالإخوان المسلمين، وانتهاء بالناصريين.
أما الزاوية الأخيرة، والمهمة: فهي رفض المقدسيين دخول المسجد من خلال بوابات الكيان الصهيوني، وإصرارهم على الصلاة قبل البوابات، وذلك كي لا يعطوا الصهاينة إقرارا ورضوخا لهم، وهو ما يعيد للأذهان ما كان يطرح من قبل من دعوة البعض لزيارة الأقصى والقدس، حفاظا على المسجد والمدينة، ومن باب تشجيع اقتصادها، وقد كان العلماء والساسة والمثقفون يختلفون في الرأي حول هذا الأمر، بين من يدعو إليه بحجة تشجيع المقدسيين، ووجود زوار يزرونه دائما، فيجعله في مأمن من التعدي، وبين من يرفض ذلك رفضا باتا، لأنه دعوة للتطبيع مع العدوان الإسرائيلي، وإقرار لهم بحكمهم واحتلالهم، وأخذ تأشيرة وختم دخول وخروج على جواز السفر من خلالهم، وكنت أرى أن الأمر يحتاج إلى دراسة متأنية قبل أن يدلي أي فقيه بدلوه، تبنى هذه الدراسة على الواقع، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وهل سيتحقق مصلحة كبرى من وراء الزيارة أم مفسدة، وعمل استبيان عام يجيب عليه المقدسيون أنفسهم، فأهل مكة أدرى بشعابها، ويجمع بين هذه المعلومات والفقه الإسلامي، ثم يصدر الفقيه رأيه، بناء على هذا الواقع فتواه، لكن الرأي الذي ترجح الآن بفعل أهل الأقصى، هو الرفض لذلك، بناء على رفضهم البوابات الإلكترونية التي يدخلون من خلالها للأقصى، فصار هذا الرأي هو الأرجح حاليا، إلا إذا جد عامل آخر يرجح غيره.