يُلحُّ علماء ودعاة على وصف الحراكات الشعبية المطالبة بحقوقها السياسية المشروعة، في بعض الدول العربية والإسلامية بأنها مفضية إلى إشاعة الفتنة، وتأجيج نيران الاحتراب الداخلي في تلك المجتمعات بحسب باحثين ومراقبين.
لكن ذلك التوجه يواجه من علماء ودعاة آخرين بالانتقاد الشديد، لأنه غالبا ما يهاجم الضحية، ويجلد ظهرها بقسوة، مع تغافله التام عن لوم الجلاد وبيان فساده، بل ربما تطوع إلى مباركة سياساته الظالمة، وانبرى للدفاع عن ممارساته الجائرة.
في هذا السياق غرد النائب السابق في مجلس الأمة الكويتي، فيصل اليحيى، قبل أيام عبر صفحته على "تويتر"، قائلا: "من الناس من لا يلوم الظالم على ظلمه، بل يلوم المظلوم إذا طالب بحقه، ويعتبر ذلك منه فتنة"، متسائلا: "أليس فعل الظلم أولى بوصف الفتنة؟".
ووفقا للباحث المصري في الفكر السياسي الإسلامي، محمد الصياد فإن "الفتنة عنوان عريض يتم سحبه وتنزيله على كافة المشكلات السياسية الداخلية منذ عهد الخلافة وحتى اليوم، لكن لا توجد محددات وتعريفات جامعة مانعة لمفهوم الفتنة".
وأضاف لـ"عربي21"، أن "الذي يراه البعض فتنة، يراه الآخرون ابتلاء، ويراه آخرون ثورة، ويراه غيرهم بابا للحرية، وهكذا اختلفت التعريفات باختلاف المشارب والانتماءات السياسية والمذهبية والعقدية".
ورأى الصياد أن "الحل يكمن في الرجوع إلى الأحكام التكليفية الشرعية، فما كان حراما فهو حرام، وما كان واجبا فهو واجب، بغض النظر عن العناوين الكبيرة التي لم يتفق عليها أحد"، مشيرا إلى أنه "حتى أهل العلم يتهم بعضهم بعضا، ويخون بعضهم بعضا بسبب الاختلاف حولها، ففي مثل تلك الحالات يكون الحل بالنزول من الكليات إلى الجزئيات".
وأوضح الباحث في الفكر السياسي الإسلامي أن "الفقهاء قديما أطلقوا مصطلح الفتنة على الحرب التي تنشب بين البغاة الخارجين على الدولة وبين الجهاز الرسمي للدولة، وانقسم الفقهاء تجاه هذه الحروب إلى ثلاثة أقسام: فريق اعتزل الخوض في هذه الفتن نهائيا، وفريق شارك في صفوف الدولة ضد الخارجين عليها، وفريق شارك في صفوف البغاة الخارجين على الدولة".
وأضاف الصياد: "وكان البغاة إذا أحكموا سيطرتهم تحولوا إلى حكام شرعيين، وصار الحكام الشرعيون منعزلين بغاة في عرف الحكام الجدد، أي أن بغاة اليوم هم حكام الأمس، وبغاة الأمس هم حكام اليوم، إذن فالمشكلة تكمن قديما في عدم وجود قواعد حاكمة في الاستلام والتسليم، وفي التداول السلمي للسلطة، فما من دولة إلا وجاءت على أنقاض وجماجم دولة أخرى" على حد قوله.
ووفقا للصياد فإنه "لا يوجد في فقه اليوم شيء اسمه فتنة، لأن الفتنة مصطلح نشأ في منظومة الفقه القديمة قبل نشأة الدولة الحديثة وقت غياب القواعد الحاكمة، أما اليوم فلا يوجد بغاة ولا فتنة ولا خوارج، لأن هناك مؤسسات دستورية وقانونية وقضائية".
وأوضح الباحث المصري أن "الإشكال جاء من فريق يريد الرجوع إلى الصورة النمطية للمنظومة الفقهية قبل نشوء الدولة الحديثة، فمن ثم نتج تنظيم الدولة الإسلامية وأشباهه، وشُرعنت أنظمة كذلك باسم المنظومة الفقهية القديمة، كفقه الطاعة، وفقه الخروج وهكذا".
واعتبر الصياد أن "الأمر برمته يعود إلى عامل الخلل المنهجي، وتجاهل التطور في أسس بناء الدولة الحديثة، ومن ثمّ تغير المنظومة الفقهية ونظرية الفقه السياسي برمتها".
من جهته اعتبر أستاذ العقيدة والفرق والمذاهب في الجامعة الإسلامية بغزة، صالح حسين الرقب أن "الفتنة هي ما يقوم به مشايخ السلطان، من إصدار الفتاوى المزينة للحاكم ظلمه، وإطلاقهم عليه زورا وبهتانا أوصافا لا تليق إلا بالخلفاء الراشدين".
وانتقد الرقب في حديثه لـ"عربي21" مسالك أولئك الشيوخ الذين "يباركون سياسات الحكام الظلمة، ويفتنون الأمة بهذا، لأن الحاكم الجائر حينما يضفي عليه علماء السوء الشرعية فإنه بالتأكيد سيستمر في ظلمه".
واستشهد الرقب بأحاديث نبوية تحذر من تأييد أمراء الجور والظلم، كقوله عليه الصلاة والسلام: "سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض" [أخرجه الترمذي وصححه والنسائي والحاكم].
وأورد الرقب ما قاله الصحابي حذيفة: "إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه".
وانتهى أستاذ العقيدة إلى القول إن "الفتنة اتباع العالم لهواه، والسير في هوى الحاكم الظالم في مخالفته لأحكام الشرع"، مضيفا أن "علماء السوء من شر خلق الله وأفسدهم".
بدوره أوضح أستاذ الفقه وأصوله المساعد، والباحث في السياسة الشرعية، أنس غازي عناية أن "الفتنة حملت في الممارسة السياسية الإسلامية مفهوما دلاليا ارتبط بسياق تاريخي، وظرف زماني ومكاني خاص".
وتابع لـ"عربي21": "وقد اصطلح للتعبير عن اضطراب الأحوال في البلاد الإسلامية نتيجة عدم إقرار ولاية من استقر له الأمر ممن تولى بالغلبة والقهر، أو نتيجة السعي في محاسبة أو عزل الإمام الظالم والجائر بالفتنة".
ولفت إلى أن "من مظاهرها: شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم، وافتراق كلمتهم، وتسلط عدوهم عليهم، وذهاب الأنفس والحرم والأموال، والشقاق والاختلاف، وضياع الأمن.. وما أشبه ذلك بحسب تعبيرات فقهاء ذلك الزمان".
ورأى الباحث في السياسة الشرعية أن "مصطلح الفتنة بهذا المدلول لا يمكن أن يفهم إلا في سياقه الظرفي الزماني والمكاني"، واصفا "تنزيل هذا المفهوم على واقع آخر، يحمل ظرفا مغايرا" بـأنه "مغالطة منهجية شديدة".
ووفقا لعناية فإن "ارتباط مفهوم الفتنة بالسعي في عدم إقرار ولاية المتغلب أو بالسعي في محاسبة الإمام الجائر وعزله ليس ارتباطا عضويا غير منفك، بل هو ارتباط ظرفي اقتضته طبيعة السياق التاريخي الخاص، ومن الخطأ تعميمه في كل سياق وزمان".
ودلل عناية على هذا الاعتبار الخاص لمفهوم الفتنة بأن "المنهج السياسي للإسلام في أصوله الكلية وفروعه الجزئية لا يقر إلا الولاية الشورية، ويبطل كل صور الولاية بالتغلب وولاية العهد، ويقرر أصل المسؤولية ومحاسبة صاحب الولاية، والقول بأن تطبيق الأصول يفضي إلى وقوع الأمة في فتنة لا يكون إلا في إطار ظرف وسياق خاص يفضي إلى إباحة غير المشروع، وتقييد المشروع مراعاة للضرورة".
وأضاف: "أما وقد تغير الظرف والحال في عالم اليوم، بعد أن ثبت بالمشاهدة اليقينية إمكان التولية بالشورى العامة من الأمة، ومحاسبة الحكام والأنظمة، بما يتفق مع الأصول الكلية والأحكام القطعية التي جاءت بها الشريعة، فإن الإعراض عن هذا المنهج الرباني هو عين الفتنة".
وجوابا عن سؤال "كيف أضحت الفتنة سلاحا فتاكا تقمع به الشعوب المطالبة بحقوقها؟"، قال عناية: "لقد تم ذلك عبر إسقاط مصطلح الفتنة بأبعاده وخصائصه التاريخية على زمننا المعاصر، وهو بالتأكيد مفض إلى خلاف مقصود الفقهاء القدامى من هذا المصطلح".
وبيّن أنه "إذا كانت الفتنة بالأمس في عدم إقرار بيعة من تولى بالتغلب، فهي اليوم في إقرار هذه البيعة مع زوال حال الضرورة التي دعت إليها، وإذا كانت الفتنة تمثلت بالأمس في السعي لمحاسبة الحاكم وعزله، فإنها اليوم تكون في الامتناع عن محاسبته، بل وعزله إن دعت الحاجة إلى ذلك".
ورأى عناية أن "الأمر إذا اقتضى في ما سبق من الزمان حث الناس على السمع والطاعة لمن تغلب عليهم، ووجوب الصبر على جور حكامهم، والامتناع عن المطالبة بحقوقهم درءا للفتنة، فإن الفتنة اليوم تتمثل بعد تبدل الحال في إقرار ولاية المستبدين المتغلبين، وفي رفع المسؤولين فوق مستوى المحاسبة".
وخلص أستاذ الفقه وأصوله المساعد إلى القول: "إن تنزيل المصطلحات ذات البعد التاريخي الخاص على واقعنا المعاصر، يجعل فقهنا السياسي وكأنه فقه خارج من القبور، والكارثة أن يوصف هذا الفقه بأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
وتابع بالقول: "وأنه مراد الله قطعا في تشريعه، والهدف من ذلك كله، توظيف الشريعة لخدمة الأنظمة الحاكمة ـ علم ذلك من علمه وجهله من جهله ـ ، خصوصا أن كثيرا من الشرعيين يتكسبون رزقهم وعطاياهم من مؤسسات النظام الرسمية التي يعملون لديها".