في وقت مبكر من الشهر الماضي قامت المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين بفرض حصار خانق، ومذهل، على قطر، تلك الإمارة الخليجية الصغيرة، ولكن الثرية.
وفي الأسبوع الماضي، بعد أن حث وزير الخارجية ريكس تيليرسون تحالف الدول التي تفرض الحصار على أن يكونوا أكثر تحديداً في ما يريدونه من قطر، خرجوا بقائمة طموحة بشكل لا يصدق تتكون من ثلاثة عشر مطلباً، وهي قائمة لو طبقتها قطر لتنازلت عن سيادتها تماماً. أصر التحالف على أن تغلق قطر قناة الجزيرة والمؤسسات الإعلامية الأخرى التي تمولها، وأن تتخلص من الوجود العسكري التركي على أراضيها، وأن تقلص علاقاتها مع إيران، وأن تلتزم بسياسات مكافحة الإرهاب التي يمليها عليها التحالف.
تنتهي يوم الاثنين المهلة التي منحها التحالف لقطر، وقد هدد أعضاء التحالف بممارسة المزيد من الضغوط عليها إن لم تستجب لهم. ولكن، لا يوجد ولا حتى أدنى فرصة لأن توافق قطر على المطالب الثلاثة عشر، ليس بالشكل الذي قدمت به على وجه التأكيد. في خضم هذا التصعيد يتواجد ما يزيد على عشرة آلاف جندي أمريكي في قاعدة العديد الجوية داخل قطر. يوماً بعد يوم، يستمر الطيارون والجنود الأمريكان في شن الحرب والقيام بطلعات جوية ضد تنظيم الدولة، وضد الطالبان، وضد أهداف أخرى في كل من سوريا والعراق وأفغانستان. بمعنى آخر، تقدم الولايات المتحدة، من خلال تحالفها مع الدول التي تفرض الحصار على قطر، تضحيات في سبيل محاربة بعض أعداء هذه الدول بينما تقوم هي بالاعتداء على حليف أساسي من حلفاء الولايات المتحدة – وكل هذا كما هو ظاهر بموافقة من الرئيس ترامب، الذي شجع دول الخليج عبر تغريدات له في تويتر على فرض الحصار على قطر.
يعطي الصراع انطباعاً بأننا إزاء حالة من التنافر وعدم الانسجام باتت مألوفة في عهد ترامب. بتنا نرى، وبشكل متزايد حول العالم كما في واشنطن نفسها، الزعماء الذين لا يعتقدون أنهم قيد المساءلة والمحاسبة يتصرفون انطلاقاً من نزواتهم في إدارة العلاقات الدولية. مثل هؤلاء الرجال الأقوياء يخلطون بين التنمر والمهارة في إدارة شؤون الدولة، ومن خلال مبالغاتهم ينتهي بهم الأمر إلى الكشف عن سوءاتهم ونقاط ضعفهم، ويخلقون الفوضى ويولدون المخاطر.
ما الفوضى العارمة التي تجتاح الخليج إلا حكاية من حكايات الحطام المحترق للربيع العربي، إذ يمثل تحالف الدول المشاركة في الحصار الثورة المضادة التي تشعر بنشوة النصر على الإخوان المسلمين وعلى غيرها من الحركات الشعبية التي انطلقت وحركت معها الجماهير العربية في مطلع عام 2011.
مؤخراً، وبعد القضاء على معظم تلك الثورات، قدمت قطر والجزيرة ومعهما في ذلك تركيا حيزاً يتنفس من خلاله الإخوان المسلمون وغيرهم من الإسلاميين الذين مازالوا مستمرين في سعيهم للوصول إلى السلطة من خلال تنظيم الجماهير والمشاركة في الانتخابات. (يذكر أن الإخوان المسلمين في مصر فازوا في الانتخابات الحرة والنزيهة التي جرت في عام 2012 ولكن ما لبثوا في العام التالي أن أطيح بهم في انقلاب عسكري.) ما إذا كان الإخوان المسلمون ديمقراطيين بالفعل أم يلجأون للانتخابات فقط ليقيموا نظاماً دكتاتورياً دينياً، هذا موضوع يتجدد الجدل بشأنه ولا يكاد يتوقف.
بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل الحصار الذي فرض على قطر أحدث إعاقة للجهود التي ما لبثت تبذلها منذ ثلاثة عقود لضمان وجود قواعد عسكرية في محميات الخليج الفارسي السلطوية، التي تتحاشى الانتخابات وتقمع حرية التعبير والتجمع. من حين لآخر، وفي أجواء يعمها التأزم أو الامتعاض، يضطر سلاح الجو الأمريكي إلى نقل قواعده من إمارة إلى أخرى، مثله في ذلك مثل العم الثري الذي يجبر على التنقل بين أفراد عائلته المتخاصمين والمتشاحنين دون أن يفهم بالضبط لماذا هذا التخاصم وذلك التشاحن. وقد يجد نفسه الآن مضطراً للانتقال من جديد.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد حرب الخليج – والتي تمكن خلالها تحالف تقوده الولايات المتحدة من طرد القوات العراقية من الكويت – اتخذ سلاح الجو الأمريكي من المملكة العربية السعودية مقراً لطائراته المقاتلة وأنظمة قيادته الجوية، وكان ذلك بادئ ذي بدء في قاعدة الملك عبد العزيز الجوية قريباً من الظهران. (كانت مهمة الطائرات الأمريكية تتمثل في فرض منطقة حظر جوي فوق جنوب العراق، كجزء من المواجهة مع الرئيس العراقي صدام حسين.) وفي الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران من عام 1996، فجر إرهابيون تابعون لتنظيم متفرع عن حزب الله شاحنة محملة بالمتفجرات قريباً من المجمع الذي يقيم فيه ما يقرب من ألفي عنصر من عناصر الجيش الأمريكي، وتمخض عن الهجوم مقتل تسعة عشر منهم وجرح ما يقرب من خمسمائة آخرين.
بعد ذلك شجعت المملكة العربية السعودية الولايات المتحدة الأمريكية على نقل طائراتها وطياريها إلى قاعدة نائية، في منطقة تقع إلى الجنوب الشرقي من العاصمة الرياض. وكان واضحاً تنامي الشعور لدى السعوديين بالقلق من أن يثير وجود القوات الأمريكية مشاكل داخلية، وفي نفس الوقت لم يرتح الأمريكان للقيود الجديدة التي فرضها السعوديون بعد الهجوم الإرهابي. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما نجم عنها من توتر في العلاقات، وتبع ذلك قرار إدارة بوش بغزو العراق، الأمر الذي أشعل الشرق الأوسط وزاد من امتعاض العائلة الحاكمة في السعودية وفاقم من مخاوفها.
في تلك الأثناء كانت قطر، التي كانت تستمتع بثروتها الجديدة التي يدرها عليها إنتاجها من الغاز الطبيعي، تراقب ما كان ينتاب العلاقات بين الرياض وواشنطن من إعياء وتوتر، ولاحت أمام ناظريها فرصة. بدأ أمير قطر ينشئ قاعدة جوية أطلق عليها اسم العديد، تمتد على مساحات شاسعة من الرمل خارج العاصمة الدوحة. تواصلت العائلة الحاكمة في قطر مع واشنطن وعرضت عليها قاعدة العديد مقراً جديداً لطائرات الولايات المتحدة ومقرات القيادة الجوية، دون كثير من القيود التي كانت تفرضها الرياض.
وفي إبريل/ نيسان من عام 2003، أعلنت الولايات المتحدة أنها بصدد نقل عملياتها الجوية إلى قطر. ولقد أخبرني ستيفين سايمون، الذي عمل في مختلف قضايا الشرق الأوسط داخل مجلس الأمن القومي في إدارتي كلينتون وأوباما وهو الآن أستاذ زائر في أمهيرست: "القطريون انتهازيون، مثلهم في ذلك مثل الجميع. كل ما هنالك أنهم قدموا لنا عرضاً ما كان بإمكاننا أن نرفضه".
يجدر التنبيه إلى أن وجود القاعدة الأمريكية يوفر لقطر أمناً هي في أمس الحاجة إليه، فهي دولة صغيرة جداً، ولا يتجاوز عدد مواطنيها القطريين بضع مئات الآلاف. إذا نظرنا إلى الأمر من الناحية الجيوسياسية فسنجد أن قطر واحدة من تلك البلدان الصغيرة الغنية بالنفط والتي أشبه ما تكون ببنك يوشك أن يسطو عليه الغزاة أو مدبرو المكائد الانقلابية. وعليه فإن العشرة آلاف أمريكي المتواجدين في قاعدة العديد يقومون بوظيفة تشبه في واقع الأمر وظيفة المؤسسة الأمنية التي توفر عناصرها المسلحة الحماية للعائلة الحاكمة. إلا أن دافع القطريين من عرضهم قاعدة العديد على الأمريكان لم يقتصر على تحقيق مصلحة ذاتية، بل – وكما يقول سايمون "لقد أرادوا توجيه ضربة مؤلمة للسعوديين".
لم تكف قطر منذ زمن طويل عن العبث بالسعودية، والعكس صحيح. امتعاضهم من بعض يعود إلى حروب الصحراء التي سبقت اكتشاف النفط، والتي كانت تدور رحاها بين القبائل التي أعوزها الفقر والتي أقامت إمارات سابقة لها حول الواحات، وحاولت إبقاء البريطانيين بعيدين عنها، وتنافست على موارد المنطقة الشحيحة في ذلك الوقت مثل اللؤلؤ في المياه الساحلية للخليج. أصاب الثراء المملكة السعودية قبل أن يصل قطر بعقود، بدءاً بثلاثينيات القرن الماضي، وذلك بعد أن اكتشف خبراء الجيولوجيا احتياطيات هائلة من النفط. تكمن ثروة قطر بشكل أساسي في الغاز الطبيعي، وهو المورد الذي ولد ثراء متحولاً فقط بعد ثمانينيات القرن الماضي. وعندما جنى منه القطريون ثروة كبيرة أنشأوا الجزيرة، القناة الإخبارية الفضائية المتحررة والمستفزة، ثم انتهجوا سياسة خارجية مستقلة كثيراً ما بدت كما لو أنها تتعمد إثارة حفيظة الرياض.
تشترك الدول الأعضاء في التحالف المحاصر لقطر في خوفها العميق وغير المنطقي من الإخوان المسلمين ومن إيران، وكلاهما فتحت لهما قطر بابها إلى حد ما. يصل الارتياب الجنوني من الإخوان المسلمين أقصى حد له بشكل خاص في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
بينما تتمتع جماعة الإخوان المسلمين بمصداقية عالية في الشارع ولديها مهارات جيدة في التنظيم، وتجد في الترويج للديمقراطية والمشاركة السياسية، لا يحظى أي من الحكام الدكتاتوريين لدول التحالف بهذه المواصفات.
أما في ما يتعلق بإيران الشيعية، فتعتقد الدول السنية الخليجية المغرقة في الطائفية أن الصراع متجذر في النصوص الدينية ويمتد لآلاف مضت من السنين وأنه مما أمر به الله. يضاف إلى ذلك أن إيران لديها شعب متعدد المهارات وإمكانيات اقتصادية هائلة يمكن أن تحدث نقلة نوعية فيما لو استبدلت حكومتها الدينية والطائفية والمسكونة بالثورية يوماً بحكومة تحديثية.
وكما صرح محلل سياسي عمل فترة طويلة في المنطقة ويعرفها جيداً في حديث له هذا الأسبوع "تعلم إيران أنها ستكون موجودة بعد مائة عام من الآن. وتركيا ستكون موجودة بعد مائة عام من الآن. أما دول الخليج فليست متأكدة من ذلك"، ولأسباب وجيهة جداً. فكل ناطحات السحاب التي شيدت في دبي والدوحة والرياض والمنامة إنما قامت على قواعد هشة.
إذن، لماذا الاستفراد بقطر، ولماذا الآن؟ أليست جميع دول الخليج الأغنى – قطر والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت والمملكة العربية السعودية – بينها من نقاط الضعف المشتركة أكثر مما بينها من اختلافات وتباينات؟ ثم، إذا كانت الرياض قلقة حقيقة بسبب تقارب جارتها مع إيران، فلماذا الاستفراد بقطر؟ فسلطنة عمان لديها علاقات أوثق بكثير مع طهران مقارنة بقطر، ناهيك عن أن علاقات قطر بإيران ضرورة تمليها حقيقة أن البلدين يشتركان فيما بينهما في حقل غاز صخم..
كما أن التسهيلات التي تقدمها قطر لجماعة الإخوان المسلمين، أو تعاونها معها، ليس أمراً خاصاً بقطر، فثمة شعبة للإخوان في الكويت وبعض أعضاء الجماعة هناك لهم مقاعد داخل البرلمان الكويتي، وفي الأردن شعبة للإخوان المسلمين تشارك بسلمية في النظام السياسي للدولة. أما في ما يتعلق بالجزيرة، فلا يعبأ أعضاء التحالف الفارض للحصار بأن يستروا نواياهم تجاه هذه القناة الإخبارية متعددة الجنسيات، والتي توفر منصة نادرة للحوار الحر وللدفاع عن مختلف وجهات النظر والآراء في العالم العربي. ولا أدل على ذلك من تصريح سفير دولة الإمارات العربية المتحدة لدى روسيا الذي أدلى به لصحيفة الغارديان، حيث قال: "نحن لا ندعي أن لدينا حرية إعلام، ولا نروج لحرية الإعلام".
هناك ما يشبه القانون التفاوضي في علم الفيزياء يفهم منه أن المطالب غير المعقولة يستحيل التجاوب معها. إذن، كيف ستحل دول تحالف الحصار هذه المعضلة التي جنتها أياديها؟ أحد المخارج هو التراجع بهدوء والقبول بما هو أقل مما أعلن عنه على الملأ من مطالب، والاكتفاء بأن قطر التي تعرضت للعقاب من جديد قد تعمد بعد هذا الحدث إلى تقليص أشرعتها والانضباط، على الأقل حتى حين.
والاحتمال الآخر هو التصعيد وصولاً إلى نقطة لا تتسنى العودة من بعدها. قد تلجأ المملكة العربية السعودية وحلفاؤها على سبيل المثال إلى غزو قطر والإطاحة بالعائلة الحاكمة هناك. أو، وهذا هو الاحتمال الأكثر واقعية، سيدفعون بقطر نحو الدخول في تحالف أعمق وأكبر مع كل من تركيا وإيران، وينالون من صدقية الدوحة من وجهة النظر الساذجة للرئيس ترامب، ويشجعون سلاح الجو الأمريكي على المضي قدماً في الاستعداد للرحيل من جديد.
يقال بأن دولة الإمارات العربية المتحدة على استعداد لاستضافة الطائرات والقيادة العسكرية الإقليمية للولايات المتحدة التي تتخذ حالياً في قاعدة العديد مقراً لها. فالبلد فيه فائض من الفنادق والمنتجعات ولكن تنقصه قوات المشاة الموالية، ولا يضيرها بتاتاً أن تستعين بمزيد من الحرس المسلح. أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فقد أثبتت الأحداث أن ارتباطاتها التي يعتد بها في الخليج ليست بتلك المتانة. ومع ذلك، سيكون التخلي عن قطر في هذا الوقت نوعاً من الاستسلام للعدوان والكبر والعجرفة.
نقلا عن: مجلة ذي نيويوركر الأمريكية- ترجمة عربي21