كلمة "نشاز" تعني في اللغة خروج شيء أو صوت عن مستوى المجموعة التي تحيط به. لكنها في
تونس تحيلك إلى جمعية تم تأسيسها من قبل عدد من المثقفين والنشطاء، يجمع بينهم انتماء فكري وتاريخي لليسار في مفهومه العام.
أما لماذا اختاروا هذه التسمية لمنتداهم، فذلك يعود إلى كونهم يقرون بأن اللحظة الراهنة هي لحظة "تساؤل"، وأن مصطلح
اليسار أصبح من الصعب "رسم حدوده، بل حتى تعريفه تعريفا شافيا".
هم يحاولون إعادة الدور السابق لليسار، لكن ليس من البوابة السياسية، إنما اختاروا عن قصد أن يكون المدخل لإعادة بناء اليسار هو الفعل الثقافي، نظرا لقدرته على فتح المجال أمام كل الراغبين في إخراج هذا اليسار من أزمته الهيكلية، بعيدا عن الدغمائية والعقلية الحزبية المنغلقة والانتصارية القائمة على التبشير بالطريق المنقذ.
نظمت هذه الجمعية مؤخرا لقاء تحت عنوان لافت "المسألة الجهادية من منظور آخر". وورد في نص الدعوة أنه "لا نستطيع الحديث عن موقف واحد لليسار من الظاهرة الجهادية، وهو ما جعل الآراء داخل هذه العائلة الواسعة والمفتوحة حول تفسيرها تتراوح بين التفسيرات السوسيولوجية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية، وبين دور القوى الإمبريالية في خلقها وتوظيفها".
وتكمن أهمية هذا اللقاء في مسألتين، الأولى أنه سلط الضوء على "سبل أخرى قد فتحت في رصد هذه الظاهرة وفهم دوافعها الكامنة والخفية بداية من تشكلها في ذهن الفرد، ثم دور الجماعة في احتضانها وتنميتها والسير بها إلى الأقصى".
أما الأهمية الثانية، فتكمن في أن بعض اليساريين قد شرعوا في القيام بمراجعات هامة من شأنها أن تساعدهم، وقد يستفيد منها غيرهم من أجل التوصل إلى فهم أعمق لمختلف الجوانب ذات الصلة بظاهرة ما يسمى بحركات "الإسلام السياسي".
هي جامعية ومختصة نفسية، توفرت لها الفرصة لتجد نفسها بحكم مهنتها في علاقة مفتوحة مع عدد من المتأثرين بالخطاب الجهادي، أو بعائلاتهم، وهو ما جعلها تتوفر على عدد من الملاحظات والنتائج الهامة.
الأستاذة ريم بن اسماعيل هي أيضا مستشارة لدى المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، إلى جانب كونها معتزة بانتمائها لليسار.
ورغم ذلك، حاولت أن تحافظ على قدر من المسافة تجاه أبناء وبنات ما يطلق عليه بـ"
التيار الجهادي". لم تتعامل معهم أعداء أو جراثيم يجب القضاء عليهم في أقرب وقت، وبأي وسيلة، كما يعتقد الكثيرون، إنما رأت فيهم أفرادا يحتاجون لمن يساعدهم على إعادة بناء شخصياتهم، واستئناف حياتهم بشكل أفضل.
تجنبت في أحاديثها معهم الخوض في المسائل الدينية والأيديولوجية، وركزت بالأساس على مساراتهم الفردية ومواقفهم من محيطهم الأسري ومن المجتمع والدولة. فهي تعتقد بأن هؤلاء لم يولدوا إرهابيين، إنما أصبحوا يعتقدون بأن الجهاد يمكن أن يكون الوسيلة الأنجع لتصحيح الأوضاع المختلة، سواء على الصعيد الفردي أو المجتمعي.
إذ لاحظت أن الكثير منهم لم تنصفهم الدولة، وتركتهم أسرهم يواجهون حالة الفراغ النفسي بمفردهم رغم عدم امتلاكهم للأسلحة الضرورية.
حتى المدرسة تخلوا عنها، لأنهم لم يجدوا فيها ما يحتاجون إليه، فقرروا مغادرتها عندما فقدوا الثقة في القيمة الوظيفية للشهادات التي توزعها كل سنة على عشرات الآلاف من أمثالهم، دون أن يغير ذلك من واقعهم الاجتماعي.
ولهذا كان بعضهم يردد بأنه "ميت حي"، بالتالي يمكن اعتبار الجهاد بالنسبة إليه نوع من "الانتحار الحلال".
بناء على هذا القدر العالي من الهشاشة التي يعاني منها هؤلاء الأفراد المتعبين وفاقدي الأمل، اعتبرت هذه المختصة أن هناك ثلاثة عوامل تدفع بهؤلاء إلى التوجه نحو بؤر التوتر، وهي مشكلتهم مع الحداثة، وثانيا الدكتاتورية التي لا تزال مخلفاتها تفعل فعلها في البلاد، وأخيرا الثورة التي يشعر هؤلاء الشباب بأنها لم تقدم لهم شيئا ملموسا، وهو ما جعلهم يشعرون بخيبة أمل قاسية.
لا شك في أن المقاربة النفسية من شأنها أن تساعد على فهم جوانب من الظاهرة الجهادية، لكنها تبقى قاصرة إذا ما لم يتم تعزيزها بمقاربات أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية وجيو استراتيجية.
لكن تكمن أهمية هذه المقاربة في كونها تفتح نافذة مهمة على العالم الداخلي لهؤلاء الأفراد حتى نتمكن من ربط الذاتي بالموضوعي.
عندما تبدأ أطراف من النخبة التونسية، خاصة إذا كانت يسارية، في الاعتراف بأن الظاهرة الجهادية في تونس هي إنتاج محلي دون التقليل من دور العوامل الإقليمية والدولية، وأن هناك أسبابا موضوعية لابد من كشفها وتحليلها بهدوء وموضوعية، فإن هذا الأمر سيساعد كثيرا على التقليل من المخاطر، ومن الأخطاء التي لا تزال ترتكب تحت عنوان محاربة الإرهاب.