وكأنه لم يكن يكفي ثورة سوريا كل الحرائق التي تحيط بها ولا كل المحن التي تحاصرها، حتى تأتي الأزمة الخليجية لتكمل دائرة المصاعب التي تخنق ثورة سوريا، ما يدفع إلى الواجهة التساؤل بمرارة: هل كانت ثورة السوريين عبئا على أهلها وداعميها، أم إن الصدف رتبت هذه الأقدار العجيبة؟
وما يزيد الأمر سوءا أن الأزمة الخليجية تقع عند مفصل خطير من مفاصل الحدث السوري، وفي الوقت الذي تشتد فيه الهجمة التي تقودها روسيا وإيران ومن كل الاتجاهات، في ظل إعلان موسكو وطهران الصريح أنهما أصبحتا تقفان عند العتبة الأخيرة من القضاء على هذه الثورة، وتكريس احتلالهما لسوريا واستعباد من تبقى فيها من البشر.
ورغم الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها دول الخليج في تعاطيها مع الثورة السورية، إن لجهة عدم التنسيق المشترك، أو الافتقاد للحس الاستراتيجي في تقديرها للفرص واتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب، إلا أن أحدا لا يمكنه نكران تأثيرات الدول الخليجية في الحدث السوري ودعم الثوار وتقوية صمودهم، واستمراريتهم في مواجهة أشرس هجمة عرفتها ثورة في التاريخ المعاصر.
ولا أحد يمكنه نكران حقيقة أن الدول الخليجية هي التي أمّنت الدعم المالي للثورة السورية، وليس خافيا حجم تكاليف مثل هذا الدعم، كما أن دول الخليج بالإضافة لتركيا والأردن، أمنت الدعم الدبلوماسي الدولي الذي وصل في مرحلة من المراحل إلى اعتراف أكثر من مئة وعشرين دولة في العالم، عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، بشرعية الثورة وتمثيلها للشعب السوري، كما أنها استطاعت فضح جرائم نظام الأسد وإيران، وقد أدت هذه الفعالية إلى عزلهما ووضعهما في خانة الاتهام بارتكاب جرائم حرب، وإبادة من قبل غالبية المنظمات الدولية ومؤسسات ومجالس الأمم المتحدة.
ولعل الأهم من كل ذلك، أن الدول الخليجية كانت الممثل العربي للثورة السورية، في ظل تقاعس غالبية الدول العربية عن أن يكون لها موقفا مؤيدا أو داعما للثورة، بل إن بعضها ذهب إلى تأييد نظام الأسد علنا في حربه المجنونة ضد الشعب السوري وتزويده بالأسلحة والخبرات اللازمة، كما فعل نظام السيسي.
المؤلم، أن كل هذا الزخم مهدّد بالانحسار والتراجع، ليتراكب مع التراجع الحاصل أصلا في قوّة الثورة ومساحات سيطرتها نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية باتت معلومة، ما ينذر بالتعجيل بحدوث الأسوأ الذي لم يكن يخطر على بال أعتى المتشائمين ولا أعداء الثورة نفسها.
والمؤكد أن تداعيات الأزمة الخليجية ستبدأ بالظهور تباعا على مسرح الحدث السوري، ومن أولى تلك التداعيات سيكون تراجع اهتمام تلك الدول بالثورة والوقوف في مواجهة التحدي الإيراني، ذلك أن طاقاتها ستتجه للصراع البيني الذي ستعتبره أكثر أهمية وإلحاحا من صراع يحتمل التأجيل، حيث سيتم إعادة تبويب مصادر الخطر ولن يكون فوز نظام الأسد وسيطرة إيران على سوريا سوى مصادر خطر متأخرة.
بل إن التداعيات ستطال تفاصيل أدق من تقدير ورؤية تلك الأطراف لمصادر الخطر، فليس سرا أن دول الخليج لم تكن تنسق عمليات الدعم للفصائل المقاتلة، وذهب كل طرف إلى دعم جماعات بعينها وهذا قد يؤدي إلى حدوث صدامات بين هذه الأطراف في الميدان، وخاصة أن بعضها فعلا في حالة عداء وسبق أن دخلت في صراعات طاحنة بينها.
ولا شك أن هذه الأزمة ستصب في طاحونة مكاسب نظام الأسد والمليشيات الطائفية وسترفع سقف التحدي الإيراني، ليس في مواجهة الثورة السورية وحسب، ولكن تجاه دول الخليج تفسها حيث ستتأكد إيران أنه بعد سقوط حائط الصد الممثل بالثورة السورية، لن يكون صعبا عليها نقل تجربتها في سوريا إلى دول الخليج نفسها.
لكن، على من تقرع مزاميرك يا داوود؟، لا يبدو أن الدول الخليجية لديها حساسية تجاه هذه المخاطر، ولا يبدو أنها في طور التراجع عن أزمة العلاقات التي يبدو أنها في طريقها للتصعيد، وحتى لو تم تجميد تفاعلات الأزمة الآن، فإن دول الخليج لن تعود كما كانت مؤثرة وفاعلة في الساحات الخارجية قبل وقت ليس بقصير، تكون خلاله قد مرّت مياه كثيرة على سوريا وغيرها من بؤر الصراع في العالم العربي.