سينقشع الدخان إن آجلا أم عاجلا، ولعله بدأ في الانقشاع تدريجيا، بعد أن نجحت
قطر في تلقي الصدمة الأولى لمقاطعة بعض أشقائها لها، دول كثيرة صمدت في وجه مقاطعات أعتى وأشد، كوبا والعراق والسودان وإيران ومصر بعد كامب ديفيد والقائمة طويلة.
السؤال الآن وبغض النظر عن النتائج التي لا تزال في علم الغيب، ماذا بعد؟ ما الجولة التالية؟ متى سنفيق على خبر صادم جديد في سلسلة الحروب على الثورات العربية وعلى قطر وتركيا والمقاومة الفلسطينية؟
أليس من واجب الوقت تشكيل تحالف قوي ومتشابك ضد محاولات تركيع الشعوب والأنظمة التي خطت لنفسها مسارات مختلفة عن مسارات الحلف
الإماراتي السعودي ومن وراءه؟
ماذا تعني قطر لقوى الليكود العربي؟
لا يمكن النظر إلى ما حدث مع قطر باعتباره مجرد خناقة عابرة بين الإمارات وقطر.
هذه المنطقة من العالم فيها دخيل اسمه
إسرائيل، كل ما يتمناه هذا الدخيل يكمن في لفظة "التطبيع"، بما يعني سقوط مفردات تصفه على حقيقته بأنه "طفيلي مزروع" في هذه المنطقة من العالم. ذروة نجاح هذا المشروع هي قدرته على استبدال ما يسمى الشرق الأوسط الجديد بفكرة الوطن العربي، الذي يعني أول ما يعني إدماج إسرائيل مع العرب في شراكات اقتصادية، وتطبيع ثقافي وسياسي، مع فتح الأسواق العربية الغنية بمواردها ومستهلكيها أمام الصناعات الإسرائيلية.
لطالما كانت هناك عقبتان أساسيتان أمام هذا المشروع:
- عقبة تحرر الشعوب العربية وامتلاك إرادتها ووصول من يعبر عن إرادة هذه الشعوب إلى سدة الحكم.
- عقبة مشروع المقاومة الفلسطينية، الذي يشتمل على مسارات عسكرية وسياسية وثقافية واجتماعية.
العقبتان متداخلتان تماما، فامتلاك الشعوب العربية لإرادتها فكرة تراها اسرائيل تهديدا لأمنها في حدها الأدنى، وترى فيها زوال دولتها في حدها الأقصى، لعلمها أن المزاج العربي الشعبي بكل تلوثاته وبكل محاولات إسرائيل التأثير عليه، لا يزال حاضرا فيه وهج المقاومة وشرف النضال، ولا يزال يراها "العدو".
باختصار تعرف إسرائيل أن تحرر الإرادة الشعبية واختيار العرب لحكامهم سيكون معناه دعم المقاومة وتبني مشروعها عربيا.
حاولت إسرائيل عبر عقود تمرير مشروع الشرق الأوسط الكبير، ورغم كل التعاون والإخلاص فقد عجز حكام مصر والأردن وبقية الحكام العرب - بطريقة أقل مباشرة - عن تحقيق أهداف إسرائيل في التطبيع الشامل، نظرا لضراوة وثقل الفكرة على الوجدان الشعبي العربي المحمل بارتباط يكاد يكون مقدسا مع القضية الفلسطينية، وبتضحيات الآباء والأجداد بدمائهم ضد إسرائيل.
الليكود العربي
منذ سنوات قلائل برز دور الوكيل الصهيوني في المنطقة وهو ما يمكن أن نطلق عليه الليكود العربي، هو طيف واسع من: الحكام المستبدين، رجال الأعمال، الإعلاميين والنخب الثقافية والسياسية وغيرهم، هذا المحور وجد قائدا جديدا في السنوات الأخيرة هو حكام الإمارات، الذين قدموا أنفسهم للإسرائيليين والأمريكيين باعتبارهم القادرين على دحر أي تهديد لإسرائيل، وتصفية مشروع المقاومة وإسقاط الأنظمة التي تعبر عن إرادة الشعوب، وللحق فإن هذا الوكيل أفضل من وكلاء سابقين في مصر والأردن ولبنان وغيرها.
وكيل شاب، يستند إلى نجاح كبير في دولته، وفرة مالية، قلة سياحية عالمية، خبرة في السمسرة والعمليات غير القانونية، كما أنه لا تعوزه المغامرة والجرأة التي تصل حد التهور والحماقة، وكيل كهذا ستعتمده إسرائيل فورا.
حلف الليكود العربي وعلى رأسه الإمارات، ومن خلال تسيير السعودية تسييرا حرفيا والسيطرة على عائلتها الحاكمة، عمل بدأب وبتخطيط مبهر في المهمة الأولى وهي إجهاض ثورة الشعوب العربية، وعمل بدأب واضح من خلال شركات تخطيط وعلاقات عامة غربية وصهيونية كبيرة وماهرة، وتمكن من ضخ أموال طائلة لشراء الذمم والولاءات لزعماء وقادة سياسيين محليين، واستخدم القصف الإعلامي عالميا وعربيا ومحليا، واستثمر في جيوش إعلامية في كل دولة عربية بلا استثناء، وفي نخب جديدة متشبعة بأهداف مشروعه وبتحقيق مصالحها الفردية المحدودة، بما مكنه من النجاح في هذه المهمة الشاقة.
نجح محور الليكود في كل شيء في هذه الجولة وانتصر انتصارا ساحقا من خلال: استغلال أخطاء الثوار، تأجيج الخلافات، تمويل أحزاب، إفساد القوى السياسية من الداخل، حشد النظم القديمة، تأليب الأقليات، شراء الذمم، التهييج الإعلامي، الدعايات السوداء، القتل والحرق والتدمير المباشر.
لكن تبقى أمامه ليعلن النصر المظفر ثلاثة عناصر صعبة:
تركيا
والتي تمثل وجها براجماتيا شديد المرونة، لكن مع تخوفات من خطط بعيدة المدى للتحول إلى قوة عظمى، وبغض النظر عن علمانية النظام المعلنة وبراغماتيته في التعامل مع إسرائيل والناتو وروسيا والصين، فإن الهوى التركي تاريخيا يصطف مع المقاومة في مآلات الأمور، كما أن لدى حكام تركيا عداء عنيفا للانقلابات العسكرية وثقة مفرطة في الصناديق والمزاج الشعبي.
كانت خطة الليكود العربي مع الأتراك واضحة، وهي إفشال هذا النظام وترويج الأكاذيب عليه، إطلاق العمليات الإرهابية على أرضه، توتير العلاقات مع حلفائه، التلاعب به عبر ورقة الأكراد، وقد حدث كل هذا وأكثر، ولما لم يبد أن النظام التركي سيهتز؛ كانت محاولة الانقلاب الفاشلة.
قطر
الدولة الصغيرة التي لها طموحات وتأثيرات واضحة، ولا يقتنع حكامها بصورة الإمارة الصغيرة الغنية التي تتجنب وجع الرأس، بل يسعون بطموح دولة كبيرة. تحركت قطر بنشاط في ملفات دارفور، والأزمات السياسية اللبنانية، والملف السوري، وانتشت بعد الربيع العربي حين وجدت القوى الشعبية التي راهنت عليها قد وصلت، أو على وشك الوصول للحكم في دول كثيرة عبر انتخابات ديمقراطية، فرمت بثقلها وراء اختيارات الشعوب في مصر وسوريا وتونس وليبيا واليمن وحتى المغرب. وتعلن قطر بلا هوادة موقفها من المقاومة الفسطينية ودعمها الشرعي للشعب الفلسطيني، ونحن نشهد طبيعة التعامل العنيف ونفاد الصبر من قوى الليكود العربي في الأزمة الأخيرة، التي ستبدو أنها ستنتهي على لا شيء حتى حين.
مأزق الإمارات ومحور الليكود العربي
رغم نجاحات الليكود العربي في دعم الاستبداد وقتل الشعوب والتآمر على إرادتها الحرة، ورغم الجهود والأموال المبذولة من الصهاينة ووكيلهم الإماراتي ودوائره، فإن مشروع هذا المحور يمكن أن يتم القضاء عليه أو على الأقل إضعافه في حال وحيد...
- إذا أدركت قطر وتركيا والمقاومة الفلسطينية، مجتمعة ومنسقة، أن نجاتها من بعض الجولات في القتال لا يعني أنها في مأمن، ولذا فعليها من الآن العمل الدؤوب والسريع في بناء حلف واسع من القوى المؤيدة لمشروع قوامه مشتركان جامعان وهما: حرية الشعوب، وقضية فلسطين.
أتصور أن هذين المشتركين هما سبب الأزمة وكذلك مفتاح الحل، فهذان العمودان هما مفتاح تجميع لكثير من القوى إلى جانب دولتين غنيتين وقويتين كتركيا وقطر، وأذكر هنا ثلاث قوى:
-
قوى الشارع العربي، التي لا يمكن التقليل من فعاليتها، الشارع الذي ثار في 2011 لكنه افتقد إلى مأسسة أفكاره، والذي لا يزال يحتفظ بحد أدنى من رغبة العيش الحر في وطنه، ومن دعم واحترام المقاومة الفلسطينية.
يحتاج الشارع العربي إلى من يحتفي به ويثق في إخلاصه، ويعرف مشاكله في اليأس السريع وفي غياب النفس الطويل تخطيطا وتنفيذا، ثم يعطيه مسارا عمليا يمكنه من الفعل.
قوى الشارع العربي المتفقة على الحريات والقضية الفلسطينية تحتاج إلى مأسسة حركتها، واستيعاب طاقاتها في تنظيمات شعبية، وفي مؤسسات نوعية متنوعة، مع ملاحظة الانفتاح على قوى الشارع العربي كافة: العلمانية والإسلامية، المسيسة وغير المسيسة.
-
إيران ولواحقها، العراق والقوى الشيعية في لبنان واليمن والبحرين والسعودية والكويت، والتي رغم كل الاختلاف والتنافر من موقفها في الثورة السورية ودعمها للاستبداد الأسدي، إلا أنها تظل في هذين المشتركين - الحرية وفلسطين - أقرب إلى مشروع المقاومة والحريات من الليكود العربي بمملكاته وإماراته ودوله الاستبدادية. لا شك أن إيران لولا موقفها من سوريا، فهي أقرب إلى المنادين بالحرية والمقاومين من السعودية على سبيل المثال، فقد تآمر
الخليج العربي على اختيارات الشعوب العربية في مصر وتونس وليبيا كما لم تتآمر إيران.
ندين إيران كيفما شئنا في مواقفها في السنوات الأخيرة، ننتقد نظامها الحاكم، نلعن رعايتها للأسد، لكننا لا يمكن في لعبة كبيرة ضد إسرائيل وليكودها العربي أن نتناسى إيران القوة الإقليمية الكبيرة التي لها تاريخها في دعم المقاومة وتمويلها وتسليحها وبشكل معلن شفاف..
كما أنه لا يسعنا نسيان فكرة هامة؛ أن محور الليكود العربي دأب على صبغ خلافات العرب مع إيران بالصبغة الطائفية، رغم أنه أول المتعاونين والشركاء لها، فلا بد حرق هذا الكارت من يد الليكود العربي.
لا بد من إيجاد وسيلة ما للاتفاق على المشترك مع إيران، والسماح باختلافات في بعض القضايا، والتعاون في هذين الملفين: الحريات وفلسطين.
-
الدول المترددة والخائفة.. وهذه مجموعة من الدول التي خفت صوتها خوفا من سطوة إسرائيل والإمارات والسعودية وحلفائها. يمكن أن نضرب مثالا بالكويت وتونس وليبيا والسودان وغيرها من الدول التي ربما لا تشكل ثقلا سياسيا كبيرا في ظروفها الراهنة، لكنها على الأقل أكثر تأثيرا من موريشيوس وجزر المالديف اللتين فخر محور الليكود العربي بمقاطعتهما لقطر.
أعتقد أن حلفا كهذا يتكون من دول عربية وإسلامية طموحة وقوية وغنية، مع تيار الشارع العربي العام، مع المقاومة الفلسطينية كفيل بأن يغير موازين القوى أمام مشروع لعين يراد به إنهاء ذكر فلسطين للأبد، وإدامة الاستبداد والخراب في عالمنا العربي.