نشرت "
عربي21"، الأسبوع قبل الماضي، حكاية بالصوت والصورة والكلمة المكتوبة، عن مقدمة برامج في قناة تلفزيونية فضائية عربية، استضافت مطربا كويتيا، وفي سياق الحوار معه، طلبت يده للزواج.
وبالتأكيد، فإنها لم تكن جادة في سؤال ضيفها ما إذا كان مستعدا للزواج بها، فبالمواصفات التي رأيتها بها (من حيث التضاريس)، لو كتبت في "تويتر": "بدي عريس"، لتقدم للزواج بها آلاف المليونيرات -من بينهم دونالد ترامب (زوجته الحالية ميلانيا ترتيبها الثالث بين زوجاته، والعاشر بين الزوجات والغيرل فريندات، أي الصديقات اللواتي عاش معهن سنوات طوال).
حكاية المذيعة هذه مع ضيفها الكويتي، ليست فقط تنم عن استخفاف بالمؤسسة الزوجية، بل دليل على أن الإعلام العربي، وعلى وجه الخصوص القنوات التلفزيونية، تستخف بالجمهور المتلقي لغثاثاتها، وما هو حادث في مجال التلفزة العربية منذ نحو عقدين، هو تعريب البرامج التلفزيونية الأمريكية ثم إيكال تقديمها لأشخاص عارين من الموهبة، ويحسبون أن خفة الروح، تأتي من خفة العقل.
وهكذا، كان التفشي الوبائي لشخصيات تقدم برامج تلفزيونية تافهة وسخيفة بلغة سوقية، ولأن المهرب من هذه الفئة من مقدمي البرامج، يكون باللجوء إلى القنوات العربية الرسمية، المتخصصة في الإفك والتدليس، فقد وجد المشاهد العربي نفسه بين أمرين أحلاهما مر.
وبداهة، فإن اللغو المشوب بالهذر والتهريج والطرب، أخف على النفس من اللغو الهادف إلى إلغاء واحتقار العقل، ولهذا انتصرت القنوات التلفزيونية التجارية على رصيفاتها الرسمية.
وشيئا فشيئا صارت نسبة عالية من جمهور التلفزيون في الدول العربية، خفيفة العقل، وصار مهند التركي بطل مسلسل "نور" المدبلج، معشوق المراهقات العربيات، وصارت النساء العرب يعايرننا بأننا لسنا رومانسيين كما مهند.
ونحن فعلا لسنا رومانسيين لأن مواطننا الأصلية هي آسيا وأفريقيا (الرومانسية مشتقة من رومانس، وتعني أصلا جنس القصص التي تدور حول الحب وجمال الطبيعة، وجذر الكلمة لاتيني، وهناك عصر كامل للأدب الأوروبي يسمى بالـ"رومانسي"، جاء ترياقا مضادا للقبح الذي لازم الثورة الصناعية، وكان جوهره تمجيد جمال الطبيعة من ماء وشجر ونسيم وحجر، وبعبارة أخرى فإن الرومانسية لا تخص رجال أو نساء الغرب أو العرب، أو العلاقة العاطفية بين الجنسين).
وصنعت التلفزيونات العربية أيقونات أخرى، معظمها من أهل الطرب والتمثيل والرقص، بدرجة أن استطلاعا للرأي شمل آلاف العرب، تضمن سؤالا عن الشيخ محمد عبده، فكان أن أبدى غالبية من استطلعت آراؤهم العجب، لأنهم لا يعرفون متى تحول محمد عبده من مطرب إلى شيخ.
وصار بعض مقدمي البرامج التلفزيونية "نجوما"، رغم أن ما يأتونه على الشاشات يوحي بأنهم قرود في سيرك، وللناس في ما يعشقون مذاهب.
وهكذا، فجماهيرية عمرو دياب في مصر، أعلى من جماهيرية
عمرو موسى، الذي لم يسمع به عرب كثيرون، إلا بعد أن أعلن شعبان عبد الرحيم عن حبه له، وكرهه لإسرائيل.
وإليكم المثال الكلاسيكي عن النجومية الزائفة التي صنعتها الفضائيات العربية: برنامج "من سيربح المليون"، الذي هو أصلا بريطاني الجنسية:
Who wants to be a Millionaire?
ثم صارت له نسخة أمريكية، ثم تم تعريبه، وتكليف جورج قرداحي بتقديمه عبر قناة "إم بي سي" الأولى، وحظي البرنامج بمشاهدة عالية جدا، لأمرين، أولهما أن جلسة تنتهي بحصول شخص ما على المليون، أو جزء من المليون، مشوقة للغاية.
وثانيهما، أن كثيرين ممن جلسوا أمام قرداحي ليجيبوا على أسئلة، وأمامهم أربعة "خيارات" للجواب الصحيح لكل سؤال، مستندين إلى ما في أدمغتهم من معلومات، أو مستعينين بالجمهور الموجود في الاستوديو لحظة تسجيل البرنامج، أو بالاتصال الهاتفي بمن يأنسون فيهم القدرة على الإتيان بالأجوبة الصحيحة، كانوا على درجة رفيعة من الجهل والغباء: ما هي عاصمة السودان: استوكهولم- الخرطوم- البلعوم- أم كلثوم؟ وتكون الإجابة بعد حك الرأس والاستعانة بالجمهور الحضور هي "البلعوم".
والشاهد ليس في برنامج "من سيربح المليون" في حد ذاته، بل في مقدمه جورج قرداحي، الذي كان كل دوره أن يطرح أسئلة قصيرة، ثم، وبعد أن يقدم المتسابق إجابته على كل سؤال، يضع إصبعا على شفتيه لزهاء 30 ثانية (تشويق)، ثم يصيح: إجابة صحيحة/ خطأ، ويذكر المتسابق بين الحين والآخر أن من حقه الانسحاب من البرنامج، بما كسب من مال أو المجازفة بأن يخسر كل ما كسب، إذا لم يفلح في أن يقدم إجابات صحيحة على الأسئلة التالية.
هذا القرداحي، حسب أنه صار "رجلا بمليون رجل"، وأنه ليلة القدر، وكأنما المبالغ التي يفوز بها المتسابقون تخرج من جيبه الخاص، وهكذا وبالاتفاق مع شركة أوروبية أنتج عطرا يحمل اسمه وصورته.
"المشكلة" في ذلك العطر أنه كان رجاليا، أي أن قرداحي حسب أنه "معبود" الرجال، في حين أن الرجل السوي الذي يعتقد أنه في منتهى الحلاوة شكلا وروحا، يميل إلى الاعتقاد بأنه ساحر النساء.
وقرداحي وسيم الملامح والتقاطيع، ولكن اعتقاده بأن ذلك يجعل الرجال منجذبين إليه، ليتهافتوا في الحصول على عطر يحمل اسمه وصورته، ينم عن خفة عقل، وحسن ظن بالنفس حد النرجسية، وسوء ظن بالرجال.
وكل عام وأنتم بخير، وستجدون في البرامج التلفزيونية خلال شهر الصوم الفضيل هذا، ما يؤكد أنني قلت في بعض أهل الإعلام "أقل" مما يستحقونه من ذم.