قبل ساعات من كلمات رئيس المكتب السياسي لحركة
حماس خالد مشعل لإعلان
وثيقة "المبادئ والسياسات"؛ التي قال فيها إن حماس تسعى، وسعيها مشروع، إلى فتح أبواب العالم دون أن تتنازل عن مبادئها وثوابتها، كان فندق "إنتركونتننتال" يجيب عمليا على كلماته، وعلى فكرته التي ظنّ هو والعالم أنه يقرؤها في الوثيقة، فأغلق الفندق في وجهه.
حماس، الحركة
الفلسطينية الإسلامية، متعودة على أن تغلق في وجهها الأبواب، أبواب الدول والعواصم العربية والعالمية، وأبواب المجالس والمنظمات الفلسطينية، وأبواب الحدود الشقيقة، ولا يبدو أن شيئا جديدا في الوثيقة يمكن أن يفتح الموصدات. فالوثيقة، كما قال الصحافي الصهيوني المعروف"جالبيرغر"، تختلف عن الميثاق القديم للحركة في أن الميثاق نصّ على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، بينما نصت الوثيقة على تحريرها من النهر إلى البحر.
غير أن الوثيقة التي رآها "برغر" هكذا، رأى فيها وزير الأمن الداخلي الصهيوني "جلعاد أردان" جانبا آخر، وهو محاولة حماس "بشكل عبثي" أن تناور في مجالات العلاقات العامة والشرعية الدولية.
لعلّ "أردان" يشير هنا إلى عدد من البنود التي تؤكد فيها الوثيقة على قيم العدالة والحرية ورفض التطرف، وعداء المشروع الصهيوني لا الديانة اليهودية، إضافة إلى البند "20" الذي أثار أكبر الجدل واللغط، والذي قالت فيه الحركة إنها "تعدّ إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على حدود الرابع من حزيران 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم، صيغة توافقية وطنية مشتركة"، مؤكدة في البند نفسه، وفي بنود أخرى من الوثيقة على تحرير فلسطين كاملة، ورفض الاعتراف بـ"
إسرائيل".
فلسطينيا وعربيا، تنطلق كثير من الانتقادات الرصينة لهذا البند من فكرة رفض تقديم حركات المقاومة مبادرات في ظل اختلال موازين القوى، وما يمكن أن تفتحه مثل هذه المبادرات من أبواب ابتزاز ومساومة؛ ومن خطورة تحويل دولة الـ67 من خيار سياسي تعاملت معه حماس قديما، إلى بند سياسي في وثيقة تأسيسية، إضافة إلى أن هذه الدولة تحولت إلى وهم بفعل إجراءات
الاحتلال الاستيطانية والتهويدية على الأرض، وأن ما يطرح لتصفية القضية الآن أبعد وأكثر خطورة.
تتمع هذه الانتقادات بقدر بالغ من المنطقية، وتعبر، في بعضها على الأقل، عن ثقة الناس بحماس، وإحسانهم الظن بها، ومعرفتهم أنها العمود الفقري للمقاومة حاليا، وأن أي تنازل محتمل منها يضرب الحالة الفلسطينية المقاومة عموما؛ وهي بعد، ضرورة وطنية وأخلاقية، إذ لا يصحّ أن يكتم صاحب الرأي رأيه الذي يراه صوابا، ولا يصحّ أن يُمِرّ الناس أي شيء فقط لأنهم يثقون بقائله، ولا يصحّ أن يظنّ أحد ما، كائنا من كان، أن الناس سيختمون له على البياض مهما قال وفعل.
غير أن الوثيقة نفسها، إضافة إلى بندها العشرين، مليئة بالنصوص التي تؤكد فيها حماس على رفض الاعتراف بـ"إسرائيل"، والتنازل عن تحرير فلسطين، وجعل التحرير ثمرة للدولة، والتمسك بسلاح المقاومة، وخيار المقاومة المسلحة في قلب وسائل المقاومة، إضافة إلى أن صياغة البند أظهرت أن القبول بدولة الـ67 منطلق من رغبة حماس في صناعة أرضية وطنية مشتركة، لا من خيارات أصيلة لديها، وهو ما يجعل انتزاع هذا النص من سياقه العام، والتعامل معه، باعتباره قبولا نهائيا من حماس بحدود الرابع من حزيران، أمرا يفتقر إلى المنطق.
بالعودة إلى "أردان"، فإنه، كما يفعل الأعداء دائما، يقدّم زاوية أخرى للرؤية، وفهما أعمق للخصم. يقول أردان: "عمليا حماس تواصل طيلة الوقت التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية، وتواصل التحريض الأهوج الذي يدعو لقتل الإسرائيليين، وتواصل رفضها الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود".
الكلمة الأولى من التصريح، تقول ما لم يقله كثيرون، "عمليا"..
ليست الحركات والدول مواثيق وأوراقا وحبرا، وأكثر الوثائق تشددا لا يمكنها أن تمنع من يمتلك إرادة التنازل عن التنازل، ومسار منظمة التحرير الذي وصل إلى شطب الكفاح المسلح من ميثاقها دليل قريب على هذا.
ليست الحركات بنودا في وثيقة، بل هي دماء وعذابات وسجون وأنفاق، وبشر يقاتلون ويقتلون، ويضيئون الأفق، ويحافظون على توازن الأرض؛ وهؤلاء هم الذين يُخشى على فلسطين إذا تغيروا فعلا، وهؤلاء هم الذين يبقون فلسطين كما هي إذا ظلوا كما هم، وهم الآن، وفي كل وقت، محلّ الامتحان والاختبار الأكبر.