في مهرجان استقبال البابا فرانسيس بابا الفاتيكان بالقاهرة، كان كل يغني على ليلاه، بينما "ليلى"، غفر الله لها، في العراق مريضة، فيا ليتني كنت الطبيب المداوي، كما قال "قيس بن الملوح"!
سلطة الانقلاب كانت تعتبر أن الزيارة فيها تأكيد على شرعيتها، فقائد الانقلاب العسكري يعلم أنه جاء إلى موقعه بقوة الدبابة، ولهذا فهو يتسول مع "الرز" الشرعية، من الخارج، وكلما ذهب إلى زيارة خارجية فإن "زفة" تصطحبه وكأنه عريس في ليلة دخلته!، ويعتبر أي دعوة تصله لزيارة الخارج، أو أي قبول لدعوته بزيارة مصر، تعزيزاً لشرعية حكمه، ولهذا كان مهرجان استقبال بابا الفاتيكان، بشكل مبالغ فيه إلى حد السماح له بإقامة قداسه في إستاد الدفاع الجوي، بدلاً من إقامته في أي كنيسة من الكنائس الكاثوليكية التابعة لكنيسته، لكنه منطق "الزفة"!
وهذا ما يبرر ما أعلنه أحد الأذرع الإعلامية للانقلاب، من حزن الإخوان من الزيارة وحرارة الاستقبال، فاته أن الإخوان لا يشغلهم الأمر، فقد كانوا يزايدون على السلطة في هذا الملف، وفي انتخابات سنة 1987، رشحوا في دائرة المرشد العام للجماعة "حامد أبو النصر" المسيحي جمال أسعد عبد الملاك على رأس "قائمة التحالف الإسلامي"، بينما عجز الحزب الوطني الحاكم أن يسايرهم في هذا، فرشح الوزير يوسف بطرس غالي الثالث في إحدى قوائم محافظة القاهرة!
وبعد الثورة، وعندما وجد المسيحيون في جولة الإعادة في الانتخابات البرلمانية أنفسهم بين المرشح الإخواني والسلفي، احتشدوا وانتخبوا مرشح جماعة الإخوان المسلمين!
وعدم القلق من المسيحيين هو الذي حال دون أن يأخذ الرئيس محمد مرسي حذره، فلم يتم التعامل بإبداع في هذا الملف!
وإذا كان الإنقلابيون يظنون أن النفوس لابد وأن تكون قد تغيرت بعد مشاركة الكنيسة الأرثوذكسية في الإطاحة بالحكم المنتخب، فإن زيارة بابا الفاتيكان وبالزفة التي استقبل بها، تلفت الانتباه إلى كنيسة أخرى، لها رعايا في مصر، وإلى بابا آخر يمثل حضوره خصماً من ثقل البابا تواضروس ولا يضيف إليه، لاسيما في مرحلة، يجري فيها تغييب الكنائس الأخرى والمنتمين إليها، وهناك قوانين منتظرة منها قانون الأحوال الشخصية، فإن غابت الكنائس الأخرى أمكن للبابا تواضروس وطائفته، الانتصار فيها وتمرير النصوص التي تتوافق ومعتقداتهم!
ما علينا..
فنعود إلى من يدعون وصلا بـ "ليلي"، التي قيل أنها في العراق مريضة، فدوافع "أهل الحكم" في إقامتهم "زفة" لزيارة بابا الفاتيكان، وكأن "النهارده فرحي يا جدعان"، تعود في جانب منها، إلى غاويته ليتدخل لدي الإيطاليين بطي ملف مقتل ريجيني، والذي يبدو أن المحرض على تعذيبه الذي أفضى إلى الموت، هو أهم من الضابط الذي عذبه، بل ومن الجهة الأمنية التي اعتقلت الفتى، لتقتله كما لو كان مصريا!
وكانت الكنيسة الأرثوذكسية هي من ادعت أيضاً وصلاً بـ "ليلى"، ومما لم ينتبه له المصريون في ظل "الأفراح والليالي الملاح"، وما أنتجته من صخب، أن الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، وقد وقعتا وثيقة "سر المعمودية"، وبمقتضاها تمت هزيمة البابا شنودة في عقر كنيسته!
الخلاف بين الكنيستين بدأ مع القرن الخامس عشر الميلادي، حول طبيعة المسيح ومسألة الاتحاد، لكن الجانب الخاص بسر المعمودية كان في عهد البابا شنودة فقط، وهو من أقر بصريح العبارة أن غير الأرثوذكسي ليس مسيحياً، فلا يعترف بالتالي بمعمودية الكنيسة الكاثوليكية، والمنتمي لها عنده هو خارج عن الإيمان المستقيم!
"سر المعمودية"، هي أحد الأسرار السبعة المقدسة في المسيحية، وهي عبارة عن طقوس تختلف من كنيسة إلى أخرى، وفي الكنيسة الأرثوذكسية يقوم الآباء الكهنة بتغطيس الشخص بشكل كامل ثلاث مرات داخل إناء ممتلئ بالماء ثم تتلى الصلوات، ولا يعتبر الأرثوذكس أن المعمودية صحيحة إلا بالتغطيس الكامل تحت الماء، لتدشين الشخص مسيحياً، أما الكنيسة الكاثوليكية فإن المعمودية تكون بسكب الماء على الرأس ثم تبدأ الصلوات!
والمسألة هنا أكبر من الشكل، لأن الكاثوليكي الذي يريد الزواج بأرثوذكسية لابد من أن يجري تعميده ابتداء أرثوذكسيا، بواسطة الكهنة الأرثوذكس، لأنه ليس مسيحياً قبل استكمال هذا الشكل!
وفي تقديري أن التوقيع على الوثيقة بين بابا الفاتيكان وبابا الأقباط الأرثوذكس، لا يعني وحدة الإيمان ولا يمهد لهذه الخطوة بهذه السهولة، فقد كانت خطوة سياسية فعلها تواضروس ضمن حملة عبد الفتاح السيسي للتقرب من البابا فرانسيس بالنوافل، وليس لدى تواضروس أزمة في أن يتخلى عن معتقدات كنيسته في سبيل إرضاء الحاكم، والاستمرار في مرحلة رهن المسيحيين الأرثوذكس لحسابات سلطوية بحتة، فالسيسي بحاجة إلى بابا الفاتيكان ولابد من أن تكون الكنيسة الأرثوذكسية جزءاً من الزفة المنصوبة، ولو أدى الأمر إلى هزيمة البابا شنودة "في تربته"!
وللوقوف على حدة الخلاف العقائدي، والصراع على النفوذ، لابد من العودة للوراء سبعة عشر عاماً عندما زار بابا الفاتيكان الراحل القاهرة بدعوة من أحد أبناء الكنيسة الكاثوليكية، رجل الأعمال "رامي لكح" عضو مجلس الشعب، وكيف اعتبر البابا شنودة أن الزيارة خطر على نفوذه، وكانت تعليماته لوزير المالية "يوسف بطرس غالي": لا أريد أن أرى هذا الولد في مصر!
فتم فتح مديونية "لكح" لبنك القاهرة، ولم تكن الدعوة مشكلته الوحيدة، التي نتج عنها إسقاط عضويته في البرلمان وهروبه خارج مصر لسنوات، لكنها كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، ولهذا فعندما عاد للقاهرة ذهب لشنودة ليفتح صفحة جديدة، بعد علمه أن العين لا تعلو على الحاجب، وأن النفوذ في مصر هو للكنيسة الأرثوذكسية وليس لمن دونها من كنائس!
الآن، صار بابا الفاتيكان مرحبا به في مصر، وصار "سر المعمودية" ليس سبباً للخلاف، فلم يعد المسيحي غير الأرثوذكسي خارج الإيمان المستقيم، كل هذا بجرة قلم!
فقد أذل الحرص أعناق الكهان.. ووجب بالتالي أخذ العزاء في البابا شنودة بهذه الخطوة!