لا أدري سببا لإفراط الرئيس عبد الفتاح السيسي في استخدام تعبير "المصريين" في خطابه السياسي، والنداء "يا مصريين"، ولا أفهم لماذا يحيد دائما عن المصطلح الدستوري والتاريخي للخطاب السياسي "الشعب"، لماذا لا يتحدث بوضوح إلى "الشعب المصري" باسمه الصريح، خاصة وأن تعبير "المصريين" ربما أقل وضوحا في الخطاب السياسي والدستوري، وحتى في الدعاية التي كان يقوم بها المجلس العسكري بعد ثورة يناير، والسيسي عضو فيه، كان الشعار "الجيش والشعب إيد واحده"، فلماذا لا يخاطب القائد السياسي "الشعب" مباشرة، بدلا من مصطلح ملتبس دستوريا، ولا نعرف على وجه الدقة من الجهة المخاطبة به، خاصة عندما يقول: لو المصريين مش عايزيني لن أبقى ثانية واحدة، من المقصود بالمصريين هنا؟
بدا الرئيس السيسي أمس عاطفيا كعادته في خطابه السياسي في مؤتمر الشباب بالإسماعيلية، وخاصة عندما أجاب عن سؤال: ماذا لو خسرت الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأكد في جوابه على زهده بالمنصب وعلى أنه لا يمكن أن يفرض نفسه على المصريين وهم له كارهون أو لا يريدونه، وقال أن هناك لجنة عليا للانتخابات وأن الناس تخرج وتقول رأيها بكل حرية، والحقيقة أن هذا الكلام العاطفي من الصعب أن يبنى عليه سلوك سياسي عملي حقيقي، ويكفي أن صاحب السؤال للسيسي، أخفى اسمه من ورقة السؤال، وعندما ألح السيسي على أن يعرف من صاحب السؤال لم يجرؤ شخص واحد من الموجودين على أن يقول: أنا، رغم أنه سؤال عادي وبديهي في التقييم السياسي، ولكن لأن المناخ العام في مصر الآن هو مناخ خوف ولا يعطي أي دلالة على قبول الدولة وأجهزتها القوية لحرية الاختيار أو التعبير، ولك أن تتصور كيف ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذا كان الخوف يملأ قلوب الناس ويجعل المواطن يعجز حتى عن أن يسأل الرئيس سؤالا بديهيا: ماذا لو خسرت الانتخابات؟
الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخاب، هذا هو الشعار الذي كان مؤيدو السيسي يرفعونه في وجه الرئيس المنتخب محمد مرسي، بمعنى أن الانقسام الشعبي الحاد على شخص الرئيس، وسوء أداء الدولة وتعاظم المخاطر التي تهددها، يجعل من الضروري أن يتقدم الرئيس باستقالته ليفوض الشعب باختيار جديد، ينهي الانقسام ويفسح الطريق أمام أفكار جديدة وخبرات جديدة لتعمل على إنقاذ البلد، وبنفس هذا المنطق الذي تقدم السيسي من خلاله بقرار عزل مرسي، أناشد السيسي أن يكون جريئا في الخطوة الضرورية لإنقاذ هذا الوطن، ووقف الانقسام المروع بين أبنائه، وهي أن يعلن بوضوح عن عدم ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية في انتخابات 2018، مكتفيا بفترة دستورية واحدة، قدم فيها كل ما في استطاعته أن يقدمه.
لكنه لم يوفق، فمثل هذا القرار الشجاع، هو وحده الذي يترجم -حقيقة وصدقا وواقعا- كل المشاعر الطيبة التي أبداها في كلمته أمس، والتي قال فيها أنه إذا لم يقبله الناس فلن يستمر لحظة أو ثانية، وأبدى زهده في المنصب، فمسألة أن يترشح مواطن مصري في مواجهة السيسي في الانتخابات المقبلة في ظل الحسابات الحالية والأوضاع الحالية هو مجازفة ومخاطرة غير مأمونة العواقب، وإذا كان أي حزب مصري الآن لا يستطيع أن يتحرك في الشارع أو يقيم مؤتمرا شعبيا ناهيك عن أن ينظم مظاهرة واحدة، فهل يعقل عاقل أن ينجح في ترشيح عضو فيه يحشد الجماهير حوله ويتجول في ربوع الوطن ويعقد مؤتمراته وينشر مندوبيه ويراقب لجان الانتخاب ويتحدى الجبروت الأمني والإعلامي لكي يدخل في صراع سياسي مفتوح وعنيف لإسقاط رئيس الجمهورية القابض على كل السلطات تقريبا بيد من حديد، هذا خيال لا يصح أن نسترسل في متابعته.
أنجح انتخابات رئاسية جرت في تاريخ مصر كانت انتخابات 2012، وسبب ذلك أن مناخ الحرية كان حاضرا، والمجلس العسكري خرج من النزال، وأدار الانتخابات بأمانة بين مرشحين يمثلون مختلف ألوان الطيف المصري، وألزم الدولة وأجهزتها بالحياد، وحمى استقلال اللجنة القضائية العليا للانتخاب، ولا يمكن أن تجرى انتخابات مماثلة إلا وفق شروط مماثلة، والسيسي حتى الآن هو الرئيس الممثل للمؤسسة العسكرية، كما أنه عندما قرر النزول للانتخابات ذهب إلى المجلس العسكري لتأكيد موافقته على ترشحه قبل استقالته من الجيش، وحتى أنصاره اليوم -فضلا عن معارضيه- ينظرون إليه ويتداولون صوره بوصفه "المشير" والرجل العسكري القوي، وبالتالي فافتراض هزيمته في الانتخابات المقبلة -رغم خياليته- إلا أنه محرج للمؤسسة العسكرية، وقد يصفه البعض بأنه تصويت ضدها وليس ضد السيسي كشخص، وهذا ما لا نتمناه أبدا احتراما وحصانة لجيشنا الوطني، والموقف السليم والسديد هنا هو إعلان السيسي الواضح عن اكتفائه بفترة رئاسية واحدة، مخليا الطريق أمام اختيار شعبي حر جديد، ومثل هذا الموقف هو الذي سيجبر أجهزة الدولة وأدواتها على الحياد الحقيقي واحترام نزاهة الانتخابات.
مصر بحاجة إلى إخلاص أبنائها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وتضحياتهم، والتضحيات ليست فقط بالجهد والمال والدم، وإنما أيضا بالمنصب أيا كان، وقد أثبتت تجربة السنوات الثلاث الماضية من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي أنه أخفق في تحقيق الوعود التي وعد بها والتي حاول أن يوفي بها، كما أن المشكلات التي كانت قائمة قبله ظلت كما هي بعده، بل ربما تفاقمت، فالانقسام الوطني شديد الوضوح، بل زاد وتفاقم عما كان وتآكلت الكثير من شعبيته، حتى ولو تم دفن صراخ هذا الانقسام الحاد تحت قسوة السيطرة الأمنية وتكاليفها، ومحاصرة الميادين بالمدرعات وبترسانة قوانين مخيفة ومروعة لمنع الحشود المليونية من العودة إليها، فهذا الحصار لا يعني أن الانقسام ذهب، وإنما هو يتفجر تحت السطح ويدمر مناعة الوطن تدريجيا، ويستنزف طاقات الدولة ومقدراتها بصورة مستمرة، ويخشى أن يأتي الوقت الذي يتفجر فيه ويخرج عن السيطرة.
الوعود بالرخاء الاقتصادي تبخرت والصعوبات تزايدت ومعاناة الناس أصبحت أسوأ بكثير من كل من سبقوه، والانهيار الأمني في سيناء وفي الداخل يراه العالم كله، وفي عهد مرسي وقعت حادثة واحدة في سيناء، وفي عهده وقعت ثلاثمائة حادثة كبيرة وصغيرة، بمعدل كارثة كل يوم، ولا يغني هنا اتهام الإخوان بأنهم سبب في ذلك، فحتى لو كانوا، فامتداد ذلك الانهيار الأمني وغياب قدرتك على إنهائه ووقفه رغم الوعود المتكررة بذلك طول السنوات الثلاث كافية لكي نقول أنك لم توفق في معالجة الأزمة.
باختصار، لا نهضة اقتصادية حدثت -وبكره تشوفوا مصر- بل ما زلنا نعيش على المعونات والقروض والهبات، ولا سياحة نهضت، ولا صناعة نهضت، ولا زراعة نهضت ولا استثمارات ضخمة محلية وأجنبية أتت بل الأموال تسربت للخارج وبعضهم صفى استثماراته وذهب بها لبلاد أخرى، والعملة الوطنية انهارت، والغلاء يعصف بالناس مع توقعات بالأسوأ وفق اتفاق البنك الدولي، والفساد توحش، والجهاز الإداري على ترهله القديم العقيم، والجهاز الأمني عاد أسوأ مما كان عند كل من سبقوك، والانتهاكات المروعة حتى بعيدا عن السياسة أصبحت مسلسلا يوميا دون قدرة على لجمه والسيطرة عليه، والإعلام والثقافة والدين وكل نشاطات الدولة تراجعت واضطربت، والمجتمع المدني يختنق ويجلب غضب العالم علينا، فما الذي يدعوك لكي تترشح لفترة رئاسية أخرى، رغم كل هذا الإرث من عدم التوفيق والصعوبات المتنامية في البلد.
سيادة الرئيس، أنت تعلم ومن حولك يعلمون، أن الطريق الحالي يتجه إلى مزيد من الضيق والظلام والخطر، وهذه دروس الدول من حولنا في الشرق، وتجارب الدول المشابهة لنا في أمريكا اللاتينية، فكلما طال هذا الطريق كلما تفاقمت مشكلاته، وزاد الظلام فيه على البلد وأهلها ومؤسساتها، وتعاظمت تكاليف الإصلاح واستعصت، وهو ما يجعلنا ندعوك لاتخاذ القرار الشجاع، بإعلان الاكتفاء بالفترة الرئاسية الحالية، وعدم الترشح في 2018، وهو قرار سيدخلك التاريخ، ويفرض احترامك على الجميع، معارضيك قبل مؤيديك، ويكون ذخرا لك عند الله عندما توضع الموازين بالقسط، كما أنه القرار الذي يفتح طاقات من الأمل والحيوية في ربوع البلاد، واستعادة الثقة الغائبة بأن المستقبل سيكون أفضل، ووقف انقسام الأمة، وإعادة شحن إرادتها للتغيير والنهوض.
المصريون المصرية