قد لا يبدو للأمر أهمية أمام المأساة التي تعيشها
سوريا منذ سنوات. ففي الوقت الذي يموت فيه المئات من الشبان السوريون بالجملة من أجل تحرير الأرض، يتساءل البعض : تحريرها ممن.
آلاف الشبان في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري باتوا دون
مهن حقيقية، بل معظمهم امتهن
الحرب، وكثيرون فضلوا الخضوع لسلطة صندوق الإغاثة، فإما مستهلك له وإما موزع براتب شهري.
ترك الدراسة للقتال
وفي حديث لــ"
عربي 21" قال أحد المقاتلين ضمن صفوف إحدى فصائل الشمال السوري، ويدعى حسن، إنه "عندما بدأت الثورة السورية كنت في سن الرابعة عشر، ومنذ ذلك الحين تركت الدراسة لأتحول فيما بعد إلى مقاتل، مقاتل فقط، وصراحة هذا ما أجيده لا أكثر، لم أكمل دراستي ولم أتعلم أية مهنة أعيش من وارداتها، وأعتقد أن لا مجال للقيام بأية مهنة أصلاً، تصوروا أن أول ما قمت به في حياتي هو القتال، وما زلت مستمراً، ولن أتوقف حتى الانتصار".
يضيف الشاب، أنه "بكل حال لا أوافق تماماً على توصيفها بالمهنة، على الرغم من أنني أقبض راتباً شهرياً متواضعاً مقابل القتال، لكنني لا أقاتل النظام السوري أو تنظيم الدولة من أجل المال أو لتأمين متطلبات العيش، أنا أقاتل من أجل قضية آمنت بها منذ طفولتي وكبرت معي خلال السنوات الستة، ورغم أن معظم من تولى هذه القضية قد باعها، وحصل على ثمنها إلا أنني مستمر ولا خيارات أمامي أصلاً".
مهن انقرضت
بدوره، قال المهندس الملقب بأبو محمد، والذي فصل من وظيفته منذ بدايات الحراك الشعبي في سوريا، ويعمل الآن في منظمة إغاثية، يطلق عليها اسم "شركة": "إن انهماك المجتمع بشكل كامل في شؤون الحرب وما يتصل بها من كوارث كالنزوح المتكرر والمستمر من منطقة إلى أخرى، وهجرة معظم السكان إلى دول الجوار وخاصة تركيا بالنسبة للشمال السوري، كل ذلك أدى لانعدام المهن وانقراض أهمها".
وأضاف أبو محمد في تصريح لــ"
عربي 21" قائلا: "هاجر معظم الشبان ما عدا الذين امتهنوا مهن الحرب، وأهمها القتال والإغاثة، فهؤلاء بقي الكثير منهم إيماناً بضرورة تحقيق هدفهم بإسقاط النظام حتى ولو بدا الأمر بعيداً جداً، وقسم منهم هو المستفيد، والذي يعجبه استمرار الحرب، وباعتقادي هم قلة قليلة، لكن أصحاب المهن الحقيقية والكثيرة معظمهم هاجر إلى تركيا، وبدأ العمل في بيئته الجديدة ومنهم من نجح وكثيرون مازالوا عمالاً مقابل لقمة العيش البسيطة".
وتابع المهندس السوري: "يحصل المقاتلون وعائلاتهم على رواتب، رغم قلتها، تكفي للمتطلبات الضرورية للعيش، كما شغّلت المنظمات آلاف الشبان لديها والذين بدورهم أعجبهم هذا العمل الخالي من المغامرة والمسؤولية، وذي الراتب الجاهز في آخر الشهر، لهذا نجد انقراضاً في المهن الزراعية على اختلاف تسمياتها، كما نلاحظ شبه انعدام لمهنة تربية الحيوانات، بالإضافة للصناعات البسيطة التي كانت متوفرة في معظم البلدات والمدن الشمالية السورية".
واستطرد: "ربما لم يتبق في المناطق المحررة سوى آثار للحضارة الإنسانية. كل ما أراه قصف وتدمير، ومنظمات تعمل باستمرار على تحقيق أهداف الداعمين وأهدافهم، ولابد من بصيص ضوء في الحقيقة يتمثل بثلة من المعلمين والأطباء والطلاب الذين مازلنا نجد الأمل من خلالهم".
المواد التركية
من جهته، يعزو عدنان، مدير إحدى المدارس الابتدائية في ريف حلب الشمالي، يعزو توفر معظم احتياجات الأهالي، رغم الحرب، الى الاستيراد عبر الحدود التركية، ويرى أن غزو المواد التركية على اختلاف أنواعها للسوق المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام سبباً رئيسياً لتوقف معظم المهن واختفائها.
وأضاف عدنان في تصريح لـ"
عربي 21" أن "المهن البسيطة التي كانت منتشرة في مناطق الشمال السوري فيما مضى وجدت كضرورة ملحة وحاجة للمواطن السوري، أما اليوم فمختلف المواد وأهمها الغذائية والزراعية تدخل البلاد عبر الحدود التركية بوفرة، ما يلغي تلك الضرورة، بل يجعل الإتجار في هذه المواد هدفاً أعلى من العمل على إنتاجها بالنسبة للجميع، وحتى لأصحاب المهن أنفسهم، لأن ذلك يأتي بالمال بطريقة أسهل، لكنه سيترك أثراً كارثياً على المدى البعيد".
وتساءل: "عن أي مهن نتحدث؟ هل سيستمر عامل البناء مثلاً بالعمل، ومن سيبني بيوتاً لتقصف فيما بعد؟ وهل سيزرع الفلاح أرضه لتحرق المحصول كله إحدى القذائف؟ وكيف سيطمئن مربي المواشي على سلامة قطيعه؟".
وتابع: "لا يمكن أن نلقي اللوم على المواطن وندعي بأنه قد أعجب بمهنة الحرب أو الإغاثة، بل إن هذه المهن هي التي فرضت نفسها، فماذا نتوقع من شباننا أن يكونوا في أيام الحرب؟".
يدرك "عدنان" الأثر الكارثي القادم، "إذ لابد أن تضع هذه الحرب أوزارها يوماً، لنجد أمامنا جيلاً من الشباب التائهين الذين لن يعرفوا ما السبيل الذي يجب أن يسلكوه، كما لن يجدوا غاية أو هدفاً يمضون باتجاهه، لكن اللوم كل اللوم على من سمح بامتداد عمر الجريمة واستمرارها حتى اللحظة لتخلّف وراءها ملايين القتلى الذين لم يموتوا بعد".