من داخل المسجد العمري في درعا القديمة، كانت الانطلاقة الحقيقية لثورة يتيمة، فرضت نفسها كحلم يراود شعباً ظل طيلة أربعة عقود من الزمن يحلم بالتغيير، وما زال يحلم، وسيظل كذلك، لأنه
الثورة لا تموت، وإن ارتقى روادها إلى تحت التراب أجساداً، وإلى السماء أرواحاً. فهي قدر شعب، بدأت ولن تنتهي بإذن الله إلا حيث أراد الشعب.
مرت الثورة السورية بمنعطفات، ومراحل هي الأكثر صعوبة، بالمقارنة مع الثورات العربية الأخرى، وهي الثورة الوحيدة التي لم تحقق هدفها الأول بإسقاط النظام السوري، وإن كانت قاب قوسين أو أدنى من ذلك، قبل أن تتدخل إيران ومليشيا حزب الله اللبناني لتغيير موازين القوى على الأرض، بعد أن طرق الثوار أبواب دمشق في صيف العام 2012.
على مدى السنوات الماضية، نجد أن الجغرافيا السورية، التي كانت ساحة شعبية تضج بالمتظاهرين ضد آل الأسد، أصبحت حالياً مسرحاً عالمياً لتصفية حسابات دولية، وحسابات طائفية وتاريخية، وحسابات وجودية تتعلق بالنظام وإسرائيل وحلف "المقاومة والممانعة" الإيراني، لكن الضحايا في كل الحسابات هم الشعب السوري.. الدم الذي لم يحرك المشاعر الإنسانية، بقدر ما حرّك شهية الجلاد لسفك مزيد من الدماء، بمباركة العالم ودعم الأنظمة العربية.
لم يعد مهماً الحديث عن السيطرة، وتقسيم الجغرافيا السورية، والدويلات المزعومة، والأرض المحتلة من قبل روسيا، أو إيران ووكلائها المحليين، فالأرض التي يجري تقسيمها في أقبية المخابرات يوحدها الدم الذي يغطي مساحة
سوريا، من درعا إلى حلب، ومن دير الزور إلى العاصمة دمشق.. إنها سوريا التي قسّمها الأحياء الطغاة، ووحدها الشهداء الأنقياء.
في سوريا الثورة كان بارزاً فيها حجم المجازرالمروعة التي نفذها رجال الأمن وقوات الأسد بمنتهى الوحشية، في كل أرض يطؤون فيها أقدامهم، فلم يتركوا حياً شهد مظاهرة ثورية إلا ودنسوه ببياداتهم العسكرية، وأوجعوا أهاليه حزناً، وأدموا قلوبهم وجعاً بمذابح يندى لها الجبين، وإعدامات ميدانية باستخدام السكاكين والآلات الحادة؛ لم تستثن طفلاً ولا امرأة، فضلاً عن قصف المنازل وتسويتها بالأرض بمدافع "الجيش العربي السوري"، كل ذلك لإعادة حاجز الخوف الذي ولى بلا عودة.
خاض الشعب مواجهة غير متكافئة مع نظام الأسد وحلفائه الدوليين، وعاش السوريون في جحيم لم يألفوه من قبل. قُتل منهم الآلاف، وأصيب واُعتقل مثلهم.. دمرت منازلهم وشردوا منها، ملايين غادروا الأرض إلى مواطن الغربة واللجوء، كل ما حملوه معهم ذكريات مؤلمة، وحنين يعشعش في مخيلتهم كل صباح، ويؤرق جفونهم كل مساء.
عانى السوريون من حصار مدنهم، ووقوعهم في بوتقة المجاعة، بعد أن أحكم النظام قبضته، ومارس التجويع كسلاح، والحصار والحرمان كعقاب مشروع؛ اضطر الناس معه في غوطة دمشق لأكل لحوم القطط والحمير، بعد اشتداد الحصار عليهم، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، واشتد الحصار ليشمل من قتلهم النظام، بعد أن كان مقتصراً على الأحياء، حتى توالت الأخبار الكارثية القادمة من حلب في تشرين الثاني/ نوفمبر2016، أهالي حلب لا يجدون أكفاناً لتكفين شهدائهم، ولا أكياساً لحفظ الجثث في المشافي.
آل الأسد لديهم خبرة في القتل تمتد إلى ما قبل مذبحة حماه الشهيرة، في الثمانينات، لذلك كان من الصعب على ثوار سوريا الاستمرار في خيار سلمي في مواجهة نظام لا يقيم للسلمية أي وزن في قوانينه، كما أن مضيه في قرار سحق الثورة لم يكن ليمر دون ردة فعل، جاءت على هيئة انشقاقات لبعض الضباط، وتشكيلات عسكرية طوعية حملت اسم الجيش الحر فيما بعد.
خاض الجيش الحر مواجهات عسكرية مع قوات الأسد، وحقق نجاحاً ميدانياً، وصل إلى أوجه مع إعلانه عملية بركان دمشق، ووصول الاشتباكات إلى أحياء العاصمة، وبعدها بأيام جرت عملية تصفية قيادات أمنية كبرى في اجتماع خلية إدارة الأزمة، وهي عملية تبناها الجيش الحر، بينما رأى البعض أنها مسألة داخلية تتعلق بصراع السلطة، وإعادة ترتيب البيت الداخلي المحيط بالأسد، ليس إلا.
كثرت المسميات الفصائلية، واشتعلت نار الاقتتال، وتغلغلت الشحناء في نفوس المجاهدين، وأصبح الملعب السوري لا يتسع لفريقين فحسب، بل أكثر من ذلك بكثير، بدءاً بإيران وروسيا، والمليشيات الأجنبية، ثم التحالف الدولي بمشاركة دول عربية، وتلتها روسيا، وتركيا، وليس آخراً الجزائر، ومصر.. كل ذلك حدث خلال ثلاث سنوات فقط، وكانت النتيجة مأساوية على شعب طالب بالحرية والكرامة في بادئ الأمر، فاستكثروا عليه حقه فيهما، وأوصلوا سوريا إلى حيث هي الآن.
طريق الثورة اليتيمة طويل جداً، ومن زعموا أنهم أصدقاء لها؛ تبين زيف ادعائهم لاحقاً. اتفق الجميع على تصفيتها، وتصفية الشعب السوري لأنه قرر أن يكون في زمن لا يسمح فيه بالخروج عما يقرره المجتمع الدولي، وبرزت من قضية إسقاط الأسد ونظامه؛ قضايا أخرى، كقضايا الإرهاب، والحل السياسي، وقضايا اللاجئين، وقضايا المعتقلين، والقضية الكردية، وهلم جرّا، وهي قضايا فرعية تلتقي عند قصر الشعب في العاصمة دمشق، هناك يمكن حلها جميعاً إن قرر النظام ترك القصر للشعب، وترك له حرية الاختيار.
اليوم وبعد ستة أعوام من الذكرى، قد يتساءل البعض: ماذا لوكان الشعب السوري يعلم بما ستؤول إليه الأوضاع في البلد، من تدمير لملايين المنازل، وقتل لعشرات الآلاف من الأبرياء، وتهجير ملايين المواطنين، واعتقال الآلاف في سجون النظام، هل كان سيثور الشعب؟
كثيرة هي التساؤلات، وأكثر منها وساوس النفس والشيطان، ولو استسلم الشعب السوري لمآلات الواقع، والمستقبل المجهول، لما أقدم على كسر حاجز الخوف، والهتاف بإسقاط النظام، وما يحدث من مآسٍ على امتداد الأرض السورية، ما هو إلا ثمن لأربعة عقود من الخوف، كوننا أمام أنظمة عربية، كلما طالت فترة حكمها، كلما ازدادت تمسكاً بالحكم. ولو كان الثمن غالياً جداً، هذا ما يفعله بشار الأسد، بحق ما فعلته به الثورة من دعوة مشروعة للتنحي، واحترام إرادة الشعب السوري.