يبدو لي أن ثمة أهمية للحديث عن ثلاث ملاحظات مشتركة تستغرق السلطة السياسية العربية عموما، وجهاز الدولة الذي تقوده، وبالتحديد الأمني منه؛ بعضها بنيوي، أو أقرب إلى منطق الإدارة الداخلي الصلب، وبعضها تمظهر خارجي، منعكس بالضرورة عن بنية المؤسسة وطبيعة منطقها الداخلي.
الحقيقة أنني مهتم بهذه الموضوعة منذ زمن، أي السيرورة التي يتشكل بها الـ"system"، على النحو الذي يطبع أنظمة الاجتماع الإنساني بتلك المشتركات التي تجعل القوة والعنف والفساد الأدوات الأكثر حضورا في التدافع وعلى النحو الذي يجعلنا نتحدث عن حتميات في الاجتماع الإنساني تغلب حتى نوازع الدين والورع بالتدريج.
وقد يعيدنا هذا إلى تحقيب مالك بن نبي للحضارة الإسلامية، وكأن انحسار الروح، ثم هيمنة العقل والغرائز على الاجتماع الإنساني حتميات لا بد منها، تفضي إلى الاستبدال بالضرورة.
بيد أن متابعتي المتأخرة، هذه الأيام، لعدد من حلقات الجزء الثالث من المسلسل السوري "الولادة من الخاصرة"، والموسوم بـ "منبر الموتى"، دفعني للتفكير على نحو أكثر تحديدا في تلك المشتركات التي تتمثل في منطق الإدارة الداخلي، وانعكاساته الخارجية، بصرف النظر عن المقولة السياسية التي كان يرغب كاتب المسلسل في قولوها، والتي، وعلى أية حال، تقدم قراءة لانفجار الأحداث وتطورها تدين النظام، وتقترب من الواقع كثيرا.
هناك ملاحظتان بنيويتان وثالثة هي تمظهر خارجي؛ الأولى هي أن منطق الإدارة الداخلي ضرب من
الفساد؛ تعين مادي للفساد، وعلى نحو يجعل إصلاح النظام مستحيلا، فالفساد هو القاعدة واقعا ومجازا، والمنطق هنا ماكينة التهام هائلة، تلتهم معنويّا أخلاق المنضوين في المنظومة، وتلتهم فعليّا أدوات الإصلاح.
في هذه الحالة إما أن يمضي المرء مغتربا عاجزا مختنقا بالكآبة اليومية، ومفتقرا إلى أي فاعلية، أو يتحول إلى جزء منتفع، بحسب حجمه من هذه المنظومة، وهكذا -كما يقول المسلسل- كان النظام السوري، على المستوى السياسي، أو على المستوى الأمني.
حينما يصل الاجتماع إلى هذه المرحلة، أي إلى عجز مطبق عن إصلاح نفسه، فإنه لا معنى للتعويل على أحد للإصلاح من داخل المنظومة، لا الرأس، ولا أي مراكز نفوذ، ولا معنى كذلك للتعويل على إدخال عناصر جديدة إلى المنظومة، لأن المنطق الداخلي قوي وصلب إلى درجة يقدر فيها على التهام أي جديد، هنا يصير الانفجار والتمزق حتميّا بدوره، نتيجة لتعدد مصادر النزاع، مجموعات بشرية ضخمة بمصالح ورؤى ومطامح متفاوتة، وبنية إدارية وسياسية وأمنية فاسدة تماما.
لاسيما، مع وجود الملاحظة البنيوية الثانية، وهي خلق تراتبية إدارية داخل البنية تقوم على الاستعباد التراتبي، يتصرف فيها المسؤول الأعلى كـ"إله" على الذي يليه في المسؤولية، وصولا لأدنى عنصر في هذه التراتبية، والتي هي أوضح ما تكون لدى الماكينة الأمنية.
هذه الماكينة تطحن الإنسان داخلها، وتجرده من أي وازع، وهي تراتبية تفرض بدورها ثقافة ضمنية تفسر لدى منتسبيها الطبائع الجارية، الأنانية الطاغية، وتعالي المؤسسة الأمنية على المجتمع، وتعالي منتسبيها على بعضهم، وفي النتيجة لن يجد المنتسب الأصغر إلا الإنسان المسحوق تماما كي يظهر عليه "الإله" الصغير الذي في داخله، يبدو ذلك جليّا في المبالغة في تنفيذ الأوامر التي تنتهك كرامات الناس، أثناء الاعتقال، والمداهمات، وفض المظاهرات، وهكذا، أو حتى بدون أوامر.
المرحلة الأخيرة البادية في احتكاك المؤسسة الأمنية، أو السلطوية عموما، بالإنسان المسحوق، هي تمظهر خارجي لتلك التراتبية، وانعكاس بدهي للقيم المنحطة السائدة، ومنطق الإدارة الداخلي، المتمثل في تراتبية الاستعباد الداخلي، والتي يمكن ملاحظتها بالشبه الهائل بين كل منتسبي المؤسسة بغض النظر عن بلدانهم، شبه في المظهر، وطريقة الكلام، وتقليد مطّرد بين الجنود الصغار للضباط الكبار، وهكذا.
بيد أن الملاحظة الثالثة التي أرغب بالحديث عنها هي تمظهر آخر، لكنه ينعكس بدوره عن بنية صلبة بالضرورة، ففي المسلسل المذكور يتّهم المتظاهرون، بـ "قبض الأموال" والتبعية لأجندات خارجية، والمهم في هذا التمظهر أنه تمظهر سائد في كل الأنظمة العربية القائمة، وهو من جهة ما مؤسس على تراتبية الاستعباد، إذ يستبطن وعيا ينفي عن الإنسان حريته وإحساسه بالكرامة.
ومن جهة أخرى ينعكس هذا التمظهر عن منطق الفساد، أو القاعدة الصلبة التي تحكم كل شيء، فالأنانية مركز كل شيء، ولا يمكن لأحد أن يبادر إلى عمل صالح بلا ثمن، وعموما فإن الفرد الغريب الذي لا يستغرقه الفساد ومنطق الانتفاع، يبدو مثاليا أحمقا في هذه الأجواء، وهو غالبا ما يوصف بهذه الصفات فعلا.
هذا الاتهام للمعارضين عموما، لا يقتصر على دعاية السلطة السياسية المضادة، بل هو تصور مقيم لدى العامة الذين يطلبون السلامة، أو الذين يوصفون في بعض البلاد، كما في مصر، بـ "حزب الكنبة"، إلى درجة أنه تصور حاضر حتى في مجتمعات النضال، إذ كثيرا ما يفترض العامة من هذا النوع، أن المناضل "يقبض المال" بدل نضاله، حتى لو سجن أو قتل!
هذا التصور هنا في هذه البيئة، أناني وانسحابي بدوره، ناجم عن انحسار الروح من تلك المجتمعات جراء غلبة الغرائز البشرية، وتراجع التثقيف بالقيم النبيلة، بيد أنها أيضا، حتى على مستوى المجتمع انعكاس للسلطة السياسية، بل تطابق مع السلطة السياسية التي تستخدم الدعاية ذاتها ضد معارضيها.
النتيجة المؤكدة هنا، أنه لا يمكن التعويل على القيم مجردة، إذ إن طبائع الاجتماع الإنساني أقوى من أي قيمة أو وازع، سواء كانت قيمة مجتمعية مثل الترابط الاجتماعي، أو قيمة دينية، أو أخلاقية، ولذلك ودون وجود أدوات وأنظمة تحاصر الغرائز الإنسانية، وتفرض مفاعيل قيم العدل والرحمة والنزاهة في الواقع، فإن أحدا لن يكون محصنا من حتميات الفساد والظلم هذه.