أصيب النظام في
مصر بالهلع؛ من هول مأساة مسيحيي
سيناء الذين يتعرضون للإرهاب، ولا حول لهم ولا قوة؛ ولذلك فقد "استنفرت دولتهم لاستقبال المسيحيين النازحين".
وما هي الخصوصية في المسيحيين حتى تستنفر قوى النظام وأجهزته لاستقبالهم؟ لقد نزح الآلاف من سكان العريش وقبلها رفح، وينزح الآن الآلاف من سكان عموم سيناء، ولم تهبّ الدولة لاستقبالهم أو السؤال عن حالهم، بل كانت هذه الدولة هي السبب في نزوحهم.
وحتى لا نضل الطريق، من الواجب ألا ننظر للعناوين البراقة، ونلهث وراء أنظمة باعت نفسها من قبل أن تستولي على الحكم، بل هي لم تبع نفسها وجاءت لتحقق مصالح من جاء بها، لقد جاءت هذه المنظومة عبر انقلاب عسكري دموي لاستكمال المخطط الذي أقر في عام 1897.
وعلينا ألا ننسى أنه في عام 1978، وبعد خمس سنوات من الإعداد الدقيق لإحدى المراحل الحاسمة، أرتكب النظام المصري خيانته التي أطاحت بمصر من صدارة التقول بالحفاظ على الحقوق العربية، وأقرت رسميا بإعلاء اتفاقيتها المشؤومة مع الصهيونية فوق كل الاتفاقيات العربية السابقة لما عرف بـ"دايفيد"، وتعهدت نيابة عن شعبنا بألا تعقد مصر أي اتفاقية في المستقبل تتعارض مع تلك الاتفاقية.
ولم تقف خيانة النظام عند هذا الحد، بل امتدت لتعيد تشكيل كيان الشعب وعقيدة جيشه، وبدأ يحدثنا عن الواقعية، وعن الحاجز النفسي، وأصبح الدفاع عن الحق رمزا للجهل والتخلف، وبدأت حملة الشعارات التي تهافت عليها الجميع، فمن العار ألا يكونوا واقعيين.
وبدأت تلك الشعارات بشعار "حل الدولتين"، وبعد فترة من الزمن وقبول المقولة والتطبيع معها، أخذا بقبول الأمر الواقع واستسلام أصحاب الحقوق لمن يملك القوة، حل شعار جديد روّج لأكذوبة "حدود 1967"، وقدمها على أنها تضحية من المحتل وتكرم منه، وعلى أنه حل مؤلم للمغتصب. ولكونه داعية سلام، فسيسعى لتحقيقه وإقناع شعبه بالتضحية.
وتتوالي السنوات، ويضطر المغتصب لبناء مستعمرات في كل الأرض المحتلة في 1967؛ لأن أرضه صغيرة، والتوسع الطبيعي يستدعي ذلك؛ لاستيعاب التزايد السكاني والهجرة "المشروعة"، ولتجميل الاغتصاب، استبدل بلفظ "مستعمرات" لفظ "مستوطنات". ولأن الممكن يأتي قبل الحق، انطلق فجأة الشعار الثالث "الأرض مقابل السلام".. أي أرض؟ وأي سلام؟
لم يدرك المتلقي، وهو شعبنا وشعوب العالم، أن هناك من وقع على تنازل عن كل الحقوق نيابة عن صاحب الحق، وكأن بلفور عاد من جديد، بل أنه في هذه المرة وقع وثيقة التنازل نيابة عن كل شعوب الأرض، ليعطيهم درسا في فن التنازل عن الحقوق وفن الاستسلام، وبلا شك في زمن التنازل والتخاذل يتعجب الواقعيون من سبب رفض هذه الفكرة الرائعة "الأرض مقابل السلام".
لقد تصور المتألقون في عالم التنازلات أنه لا جديد، وأن المقصود من ذلك هو أن الأرض المغتصبة في 1967 سوف تعطى للفلسطينيين ليقيموا عليها دولتهم المستقلة، مقابل أن يعيش المغتصب في سلام داخل الحديقة أو المنظومة العربية، بينما حقيقة شعار الأرض مقابل السلام لم يكن إلا إعطاء قطعة من الأرض "أي أرض" لبعض الفلسطينيين ليقيموا عليها شبه دولة، وقطعة الأرض هذه ستكون من المتاح من الأراضي، ووضح ذلك مع ظهور شعار "تبادل الأراضي".
ونعود لأرض الفيروز، بوابة مصر الشرقية، التي لا سيادة لمصر عليها منذ احتلالها في1967، وكذلك بعد وهم تحريرها في كامب ديفيد، فلا تستطيع أي حكومة مصرية إدخال وحدات جيش لسيناء، أو حتى وحدات شرطة بتسليح خفيف، لأي سبب كان، حتى وإن كان لوقف عمليات قتل الجنود، والتي أصبحت لغزا، وما هي بلغز، فمنذ بدأت الهجمات على الجنود المصريين في سيناء عقب ثورة 2011، والجميع يتساءل: من يقوم بها؟ ومن أين يأتي هؤلاء بالسلاح؟ وكيف يتفوقون على الجيش المصري؟ ولماذا يصمت هؤلاء الجنود وذووهم؟
الإجابة على ذلك لا تحتاج لدراسة مستفيضة، ولكنها تحتاج لقراءة متأنية للواقع ومواقف الأنظمة وتعاملها مع الأحداث، فقد فشلت الدولة بدعوى القصور في الكفاءة، بل عن عمد في مواجهة تلك الجماعات المسلحة، وتحججت بكامب ديفيد لإظهار العجز، بل وقد استغلت ذلك لتوجيه ضربات للسكان الآمنين؛ لرفضهم ترك منازلهم، سكان مصريين عمروا هذه الأرض لآلاف السنيين، مواطنين مسلمين ومسيحيين على السواء، لأن ترحيل سكان سيناء، بعد رفح والعريش، هو هدف ليتم تفريغ الأرض ويبدأ تنفيذ المرحلة التالية من المخطط.
لقد بدأت هذه المرحلة التي يتولى إدارتها نظام خائن ويروج لها إعلام مأجور، بحصار غزة وإغلاق الحدود بدعوى الخوف من أن ينزح فلسطينيو غزة لسيناء والاستيلاء عليها، والحقيقة أن الهدف هو خنق فلسطينيي غزة وترويج أكذوبة غزو الفلسطينيين لسيناء والاستيلاء عليها.
ولأن الحرب على "
الإرهاب" هي الظاهرة الرابحة في الغرب، فلا مانع من زرع الإرهاب في سيناء أو تركه يترعرع، ومنه يتهم أهلنا في غزة بمساعدة الإرهاب وتسليحه، والجميع يعلم أن مصدر السلاح هو ليبيا عبر رجال حفتر، تماما كما صعد نجم داعش في سوريا والعراق لإفشال الثورة؛ بحجة الحرب على الإرهاب، ويقتل كل يوم جنودنا ولا تدمع عين عليهم، ويتضح أن النظام لا يرسل لسيناء سوى الفقراء وأبناء الملاجئ حتى لا ينفضح أمره.
ثم يأتي تدخل الجيش الصهيوني للرد على طلقات عشوائية، والتي لا يملك جيش كامب ديفيد التعامل معها، وكما في سوريا التدخل الأجنبي لمواجهة الإرهاب، بينما يمارس جيش كامب ديفيد الإرهاب الحقيقي ضد أهلنا في سيناء؛ بغية تهجيرهم وتفريغ سيناء من السكان.
ولكون الغارات الصهيونية لا يمكن أن تستمر حرصا على عدم نمو جبهة رفض غير مضمون عاقبتها، تأتي التهديدات لسكان العريش المسيحيين لتحرك ضمير الغرب الصامت أو المبتهج بقتل الآلاف الآخرين، والفرصة سانحة، فالبيت الأبيض يسكنه دعاة الحرب الباحثين عن سبب لإشعالها. وكما حدث من قبل تقبل الكنيسة أن تستخدم للدعاية، وهي بلا شك لن تحصل على أي شيء في المقابل إلا صورة تذكارية في ألبوم الخيانة.
ويتحقق بذلك الهدف من الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين، كما بين الفلسطينيين والمصريين، بعد أن كان الشعب المصري محتضن القضية الفلسطينية في عقله وقلبه، كما حدث من قبل وتمت الوقيعة بين الشعبين المصري والسعودي في إحدى مراحل "الأرض مقابل السلام" في مهزلة تيران وصنافير، والتي بها تخرج مصر من المنطقة المرجو تسليمها ويقبل الجميع بالأمر الواقع.
لم يكن تخوين نظام مصر الشرعي إلا ادعاء باطلا ليجذب السذج ويجمعهم حول عناصر الثورة المضادة، وعملاء الصهيونية المهيمنين على جيش كامب ديفيد، ليحقق الانقلاب على الشرعية، الذي مثّل الخطوة الأولى للاقتراب من تحقيق الحلم، حلم الحركة الصهيونية الذي وُلد في بازل في عام 1897، وليتحقق شعار الأرض مقابل السلام، لتكون أرض سيناء هي الأرض، وأن يكون أمن الدولة الصهيونية هو السلام، وتصبح سيناء الفلسطينية برعاية صهيونية، وندعى كما من قبل للتنازل عن الشرعية في مصر وفي فلسطين.