السجن ليس قتامة الجدران، ولا هو صدأ الأزمنة على بلاهة القضبان، السجن صراع على مدار اللحظة بين وحشية الظروف وإرادة الإنسان! والمصارع مهما كان، وفي كل زمان، لا بد أن يحشد جل طاقته بهدف البقاء على قيد الحياة أولا، ثم تحسين ظروف هذه الحياة ثانياً، وما بين البقاء وتحسين شروط البقاء هوة سحيقة من الأهوال.
فقد نشرت الصحف العبرية سنة 1992 خبرا يقول: سجين
فلسطيني يقيم في سجن نفحة الصحراوي، يقضي حكما بـ18 عاما، يقف أمام القضاء
الإسرائيلي شاكيا الجوع، ويطالب السجين الفلسطيني فايز أبو شمالة (أنا) أن تطبق إسرائيل على الأسرى البند الرابع من اتفاقية جنيف، وأن توفر مصلحة السجون وجبة طعام إضافية له، تتناسب مع وزنه.
لم يستطع القاضي الإسرائيلي في محكمة بئر السبع أن يرفض طلبي، ولا سيما حين أشرت إلى الفروق الفردية بين وزني الذي يزيد عن مئة وعشرة كيلو جرام، ووزن ممثل مصلحة السجون الإسرائيلية الذي لا يتحاوز 60 كليوجراما، والذي يدعي في مرافعته أن إدارة السجن تقدم للسجين الفلسطيني الوجبة الغذائية نفسها التي يقدمها الجيش الإسرائيلي للجندي الصهيوني، وراح يستعرض متوسط السعرات الحرارية المطلوبة للفرد!
سنة 1992 لم يكن لدى الفلسطينيين سلطة، وكان الأسرى يخوضون الإضرابات عن الطعام بهدف تحسين أوضاعهم المعيشية، ومن ضمنها تحسين نوعية الطعام المقدم للأسرى، وزيادة الكمية، حتى نجحنا من خلال الإضرابات عن الطعام في تشكيل لجنة من الأسرى، تشرف على المطبخ، وتقوم بالطهي، وتتسلم كمية الطعام المخصصة للأسرى وفق القانون الإسرائيلي، وحسب البيانات الرسمية الصادرة عن مصلحة السجون.
سنة 1992 كان يُسمح لأهل الأسير أن يضعوا في حسابه مبلغا صغيرا من المال، يمكنه من شراء بعض السجائر والحلوى والصابون، من بقالة السجن، ولما كان بعض الأسرى فقيرا، ولا يقوى أهله على الدفع، ولما كان بعض الأسرى من خارج فلسطين، ولا أهل لهم في الداخل، فقد عمدت اللجنة الوطنية في السجون إلى جمع المبالغ المودعة للأسرى القادرين، لتشتري السجائر والحلويات والصابون، وتوزعها على جميع الأسرى بالتساوي، ودون تمييز.
سنة 1994، حين صار للفلسطينيين سلطة، وصار من واجب السلطة الفلسطينية أن تضع في حساب كل سجين مبلغاً مالياً بداية كل شهر، يمكّن الأسير من شراء ما يلزم من ضروريات، حتى وصل المبلغ سنة 2004 إلى 250 شيكل شهرياً، تسددها وزارة شؤون الأسرى والمحررين عن كل أسير، وهذا ما أغرى مصلحة السجون، وحفّزها على تقليص كمية الطعام المقدمة للأسرى، ليصير تعويض حاجة الأسرى إلى الطعام من بقالة السجن. وعليه كانت المطالبة بزيادة المبالغ المقدمة للأسير، حتى وصلت إلى 300 شيكل شهرياً. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عمدت مصلحة السجون إلى التوقيع على اتفاق رسمي سنة 2008، برعاية وزير الأسرى السابق أشرف العجرمي، والذي يقضي بأن تدفع السلطة الفلسطينية مبلغ 400 شيكل شهرياً عن كل سجين فلسطيني، سواء كان عسكريا أم جنائيا.
ولما كان عدد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يقارب الـ7000 أسير، ولما كان عدد السجناء الجنائيين يقارب الـ1000 سجين جنائي، فإن المبلغ الذي تتقاضاه إسرائيل مقابل إطعام الأسرى يصل إلى حوالي 3 ملايين شيكل شهريا، يدفعها الصندوق القومي الفلسطيني، إضافة إلى ما يدفعه ذوو الأسرى القادرون إلى أبنائهم.
إن بؤس الاتفاقية الموقّعة مع مصلحة السجون لا تقتصر على تقاسم المهمات، بحيث يكون السجن على حساب مصلحة السجون، ويكون الخبز على حساب السلطة الفلسطينية، وإنما بؤس الاتفاق الذي أشرف عليه الوزير الفلسطيني يكمن في:
1- الموافقة على تحمّل مسؤولية إطعام السجناء الجنائيين، والإنفاق المالي عليهم، وفي الوقت نفسه تجاهل أسرى القدس وأسرى فلسطين المحتلة سنة 48، على اعتبار أن هؤلاء لا يتبعون السلطة الفلسطينية، وإنما هم مواطنو دولة إسرائيل!
2- لقد صارت هذه المبالغ المالية عبئا على حياة الأسرى، ولا سيما بعد أن وظفتها مصلحة السجون لعقابهم، فصارت تعاقب الأسرى لأي خطأ بالخصم المالي من حسابهم، فإذا رفع السجين صوته يتم الخصم، وإذا نسي ترتيب سريرة يتم الخصم المالي، وإذا تأخر في الوقوف عند عدد الصباح يتم الخصم المالي، وهكذا..
3- هذه الأموال المودعة في حساب الأسرى قد تخلق حالة من التمايز، وهذا غير محبب.
فما هو الحل لمثل هذه الحالة التي تورط فيها السجين بالإنفاق على نفسه خلف الأسوار؟
الأصل في الحل هو حرية الأسرى، وأن تعلق السلطة الفلسطينية كل أنشطتها، وأن تعتصم قيادتها على مفارق طرق المستوطنين في الضفة الغربية، مطالبة بتحرير الأسرى، ولكن على ضوء العجز والتقصير وإهمال حرية الأسرى المتعمد، فإن الواجب يقضي بأن:
1- الزج بالصليب الأحمر الدولي ليأخذ دوره في معالجة نوعية طعام الأسرى ونظافته وكميته، وهذه المسألة المهمة من ضمن اختصاص المؤسسة الدولية.
2- الاستعانة بمؤسسات حقوق الإنسان للدفاع عن حق الأسرى في المأكل والملبس والمسكن المناسب، لتكون بقالة السجن مكملة لنقص الغذاء، وليست الأساس.
3- التقدم بالشكوى إلى الأمم المتحدة، والمطالب بتطبيق البند الرابع من اتفاقية جنيف الثالثة، ولا سيما بعد أن اعترفت الأمم المتحدة بدولة فلسطين بصفة مراقب.
4- أن يشرع الأسرى بخطوة تصعيدية في كل السجون، تطالب بسلة السجين، ووفق القانون الإسرائيلي نفسه، والذي لا ينكر حق السجين في المأكل والمشرب والملبس، وحتى لا ينكر حقه في الملابس الداخلية، بما في ذلك توفير الحذاء المناسب لمقاس رجل السجين.