قضايا وآراء

"حصار" الثقافة

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
لن نبالغ القول كثيرا لو اعتبرنا أن المنظومة الثقافية أضحت، بداية هذا القرن ومنذ مدة من الزمن غير بعيدة، في محك حقيقي من العديد من التحديات الكبرى التي إذا لم تكن ترهن حاضرها ومستقبلها، فهي على الأقل تمارس عليها الحصار شكلا كما في المضمون.
 
والحقيقة أن المنظومة إياها، بداية القرن الحادي والعشرين، إنما تبدو ولكأنها في "موقع الدفاع" بعدما كانت ولقرون عدة، في مأمن عن كل استهداف يذكر.
 
هناك، فيما نتصور، ثلاثة تحديات كبرى تجعل من المنظومة الثقافية، بداية هذا القرن، في حالة "حصار" حقيقية إذا لم تكن في الحاضر القائم فتأكيدا في المدى المنظور:
 
*التحدي الأول ويتمثل أساسا في ظاهرة العولمة الاقتصادية والتجارية التي غدت "لغة العصر" تفكيرا وسلوكا، خطابا وممارسة.

ومكمن الخطر في الظاهرة إياها ليس بالتأكيد دفعها بمنطق الانفتاح والتبادل بين الاقتصادات والمجتمعات، و لا متمثلا في دفعها بحرية انتقال السلع والخدمات، بل في تقديسها لمبادئ ومعايير السوق، وفي صلبه " قيم" التنافسية والإنتاجية والمرونة واللاتقنين، وبالتالي الإقصاء "الطبيعي"  لمن لا قدرة أو قابلية له للصمود أو "التكيف".

لا يقتصر الأمر، مع العولمة على هذا الجانب، بل يتعداه إلى التوجه القائم بصلبها بجهة تسليع الموارد المادية واللامادية، وتحويل فضاء ذات الموارد إلى جزء من فضاء السوق، والمطالبة بـ"ضرورة" انبنائها، من أجل تقييمها، على طقوس العرض والطلب، حيث القيمة التجارية هي الفيصل بينها نهاية المطاف.

وعلى هذا الأساس، فأي سلوك يعاكس ذات التوجه أو يناقضه أو لا يستحضره هو، أو هكذا يقال، سلوك "انكفائي"، سيفضي بالثاوي خلفه (اقتصادا أو ثقافة أو ما سواهما) إلى الإقصاء وإلى التهميش بالمحصلة النهائية.

لن تكون الثقافات "الدنيا" أو اللغات "الهامشية" في محك من هذا الواقع لوحدها، بل وأيضا بعض من اللغات المركزية التي لا تتساوق و"لغة" المال والأعمال والتجارة والاقتصاد والإعلام والاتصال.

ومعنى هذا أن الثقافات واللغات إياها لا ترفض التواصل أو تنبذ الانفتاح، بل تتراءى لها "المبارزة بالسوق" أمرا خاسرا، لا مجال لخوض غماره من الأساس. ومعناه أيضا أنه كائنة ما تكن قوة ذات الثقافات واللغات، وقابليتها للفعل والتفاعل، فإنها ستكون "مهزومة" لا محالة أمام منطق السوق وجبروت السلعة.

*أما التحدي الثاني فيكمن فيما يمكن أن نسميه بالتحدي التكنولوجي، أي ذاك التحدي الذي رفع في وجه الثقافة منذ عقدين من الزمن أو أكثر، أي منذ انفجار  "ثورة" تكنولوجيا الإعلام والاتصال.
والتحدي المقصود، في هذا الباب، لا يعني فقط انتقال مكمن الثقافة إلى مجال "التكنولوجيا الثقافية"، وتحول ميدان الثقافة المكتوبة لفائدة المرئية أو المسموعة، ولكن أيضا تحديها على مستوى المنظومة والسياق.
 
فـ"التكنولوجيا الثقافية" تحتكم إلى الآنية لا إلى الزمن الطويل، وهي ترتكز على السرعة لا على التأني، وهي تنبني على العابر والجاري، لا على الساكن والقار، كما هو مجال اشتغال الثقافة ومنطق صيرورتها. بالتالي، فالثقافة "مطالبة" ليس فقط باستحضار معطيات الواقع الجديد، بل قل هي "مجبرة على التكيف" مع مجاله ومنطقه، إذا لم يكن في المضمون فحتما في الشكل.
 
ولما أضحت الثقافة "سلعة" كباقي السلع، ومحكها بالنهاية هو "السوق الثقافي"، ومعيارها الجديد هو التنافسية، فإنها غدت بتحصيل حاصل، مكرهة على تجديد آلياتها وأدواتها، وإعادة النظر في طرق إنتاجها وتوزيعها وترويجها واستهلاكها وما سوى ذلك.
 
ليس ثمة من شك في أن التكنولوجيا الجديدة والشبكات المتصاعدة والتيارات الرمزية المقتنية للسواتل والكوابل وقواعد المعطيات، إنما فتحت للمنظومة أبوابا ونوافذ جديدة، لكنها في الآن ذاته ضيقت من مجالها التقليدي ومن "خندقها" المعهود.
 
*أما التحدي الثالث فيتراءى لنا متمثلا، بارتباط مع ما سبق، في تقوي منظومة "الفكر الواحد والوحيد" الذي ترفعه العولمة الاقتصادية، ويبني لها في ذلك تطرف الليبيرالية في شكلها الاقتصادي، كما في شكلها الثقافي سواء بسواء.
 
والتحدي إياه لا ينحصر في طبيعة "العولمة الثقافية" المراد ترويجها وتمطيطها لتطال الكون برمته فحسب، بل يتعداه إلى الدفع بكل ثقافات العالم (ولغاته أيضا) لتنصهر جميعها في "الثقافة الواحدة" السائدة، والنسج على منوالها في الإنتاج والترويج والاستهلاك.
 
وعلى هذا الأساس، فلا يبدو أن تراجع العديد من ثقافات ولغات العالم (بل وانقراض جزء كبير منها) لا يتراءى لنا نتاجا طبيعيا لصيرورة معينة بداخلها، بقدر ما يبدو لنا نتاج "الفكر الواحد" إياه، وانصراف أهل ذات الثقافات واللغات عنها، بحكم الأمر الواقع...الواقع الموضوعي يقول البعض.
 
بالتالي، فآلة "الفكر الواحد"، ومن خلفها آلة العولمة والليبيرالية الجديدة، إنما وضعت وتضع يوما بعد يوم، العديد من ثقافات الدول ولغات الشعوب والأمم في حالة أفقدت بداخلها مناعة المقاومة إلى حد بعيد، فما بالك بالمواجهة أو التصدي.
 
هذه التحديات الثلاثة الكبرى، التي قدمنا لعناصرها الكبرى أعلاه، هي التي على محرابها سيتحدد "المصير النهائي" لمعظم ثقافات ولغات العالم، المرابطة في الهامش، كما تلك التي كانت مركزية إلى حين عهد قريب.
0
التعليقات (0)