100 يوم من المعارك العنيفة والحصار في مدينة الموصل، شمال
العراق، كانت كفيلة بأن تجعل من الوضع الإنساني لسكان نصفها الغربي على شفا الانهيار، بعد قطع خطوط إمدادهم بالمستلزمات الحياتية الأساسية بالتزامن مع استمرار القصف الجوي لطيران التحالف الدولي وتوقف المشاريع الخدمية عن العمل بشكل تام.
وفي الـ17 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، انطلقت معركة تحرير مدينة الموصل من أربعة محاور بمشاركة أكثر من 100 ألف عنصر أمن من الجيش وقوات مكافحة الإرهاب وقوات البيشمركة (جيش الإقليم الكردي) وقوات الحشد الشعبي (فصائل شيعية مسلحة) وبإسناد من التحالف الدولي، وبعد معارك شرسة تمكنت القوات من استعادة الجانب الأيسر (شرق المدينة).
"الخوف من الحياة يفوق الخوف من الموت".. هكذا لخصت "أم كرم"، السيدة الأربعينية وهي من سكان الجانب الأيمن من الموصل، معاناتها وغيرها من الأوضاع السائدة هناك الآن.
السيدة العراقية التي نجحت "الأناضول" بصعوبة في الوصول إليها هاتفيا نظرا لرداءة شبكات الاتصال بالمدينة، قالت إن "الوضع الإنساني منهار بنحو تام، فلا ماء أو غذاء أو دواء، والسكان يموتون جوعا ويضطرون لأكل أوراق الأشجار والاعتماد على الأمطار في الحصول على المياه من أجل العيش وهو ما لم تشهده المدينة طيلة تاريخها الحديث".
وأضافت السيدة العراقية التي اكتفت بذكر لقبها "أم كرم" أن "أغلب أسعار المواد الغذائية المتوفرة في الأسواق التجارية قفزت إلى أربعة أضعاف سعرها الحقيقي، والسلع اللازمة لديمومة الحياة لا توجد بشكل نهائي".
وأشارت إلى أن "ثلاثة أشهر من الحصار الخانق وتحول المدينة إلى ساحة مواجهة جعل الحياة صعبة للغاية بل مستحيلة، والجميع يرغب في الخلاص بأية طريقة كانت بعدما بات الخوف من الحياة يفوق الخوف من الموت".
"أم كرم"، المسؤولة عن إعالة أولادها وبناتها الست بعد موت زوجها بقصف جوي على المدينة مطلع عام 2015، رأت أنها ليست الوحيدة التي تواجه هذه الظروف بل إن "هناك آلاف المدنيين ممن حالتهم أسوأ منها بكثير ويعانون الفقر والحرمان ولا يجدون ما يسد رمق قوتهم اليومي".
ومنذ 50 يوما تضطر "أم كرم" إلى تقديم وجبة واحدة لأبنائها خلال اليوم تتألف من التمر وخبز الشعير فقط وبعض الأحيان من الطماطم المشوية على نار الخشب لعدم وجود الوقود وزيت الطهي.
وبعبارة "على المعنيين تحريرنا أو قتلنا".. اختتمت السيدة العراقية حديثها للأناضول.
شح مالي
في الاتجاه نفسه، جاء حديث الناشط الموصلي، لقمان عمر الطائي، الذي قال للأناضول، إن "الأسعار ارتفعت بشكل غير مسبوق، والأهالي يعتمدون على ما قاموا بتخزينه استعدادا لمثل هذه الأيام، لكن يبدو أن الخزين المنزلي من الأطعمة وغيرها سينفد قبل أن تنتهي هذه الحرب".
وبحسب الطائي فإن "سعر البيضة الواحدة يبلغ نحو 1250 دينارا عراقيا (ما يعادل دولارا أمريكيا) ونفس السعر بالنسبة للسيجارة الواحدة من النوع الرخيص، علما بأن التدخين يتم سرا بعيدا عن عيون عناصر
تنظيم الدولة لأن الجلد هو مصير من يضبط وهو يدخن السجائر".
وتابع بأن "سعر الكليوغرام الواحد من السكر يبلغ 12 ألف دينار عراقي (ما يعادل 10 دولارات)، ومن لحم الضأن 16 ألف دينار (ما يعادل 13 دولارا)، أما سعر الكيلو الواحد من الطحينية (مستخلص من بذور السمسم) فقد قفز إلى 12 ألف دينار (ما يعادل 10 دولارات) ويعد غذاءً رئيسا لدى الموصليين في أوقات الأزمات حيث يتناولونه مع الدبس (مستخلص التمر) والذي يبلغ الكيلو الواحد منه 9 آلاف دينار (ما يعادل 8 دولارات)".
وبحسب الطائي فإن "الأهالي يعانون من شح مالي كبير ولا يمكن لأكثريتهم شراء الوقود أو اللحوم، إضافة إلى أن أغلبهم بات يعتمد على الحطب والأخشاب في الطهي والحصول على شيء من التدفئة في ظل انخفاض حاد بدرجات الحرارة".
"محمد خليل"، هو اسم مستعار لشاب موصلي في عقده الثالث يمتهن بيع المواد الغذائية في منطقة "باب السراي" التجارية بالنصف الغربي من الموصل، تحدث عبر الهاتف مفضلا إطلاق هذا الاسم عليه لمنع تنظيم الدولة من العثور عليه.
خليل كشف عن "نفاد البقوليات ومستلزمات الطهي والدقيق والسكر والرز من الأسواق بشكل تام بعد قطع الطرق التي تربط الموصل بكل من تركيا وسوريا من جهة والمحافظة الشمالية العراقية من جهة أخرى، ورفض سائقي السيارات الكبيرة من سلك الطرق الصحراوية لجلب البضائع وإدخالها إلى المدينة لخطورتها واستهداف المركبات من قبل الطيران الحربي في الكثير من الأحيان".
تأمين لقمة العيش اليومية للعائلات الموصلية - بحسب خليل- أصبح صعبا جدا وفي الكثير من الأحيان مستحيلا، "الكثير من الرجال يخرجون إلى الشوارع وهم يضعون اللثام على وجوههم كي لا يعرفهم أحد من أجل البحث عن الطعام حتى في أكوام النفايات والعودة به إلى عوائلهم واستخراج الصالح منه ثم أكله لكبح جماح وحش
الجوع المدمر".
وكانت الأمم المتحدة قد حذرت من أن عملية استعادة الموصل وهي أكبر معقل حضري للتنظيم الإرهابي في العراق قد يشرِّد ما يصل إلى مليون شخص، واختار معظم الناس البقاء في ديارهم أو الانتقال بشكل مؤقت للإقامة عند أقارب لهم في أحياء أخرى، ومنع الإرهابيون كثيرين آخرين من الفرار واتخذوهم دروعا بشرية.
النفايات.. مصدر للغذاء!
قطع الماء وخط الطاقة الكهربائية عن المستشفيات والمراكز الصحية والمشاريع الخدمية في الجانب الأيمن للموصل يفوق خطر شح المواد الغذائية، هذا ما أكده الناشط والمراقب للشأن الموصلي فاضل عباس الجبوري، مبديا استغرابه الشديد من "محاربة أكثر من 900 ألف مدني يقطنون في الجانب الأيمن بحجة القضاء على مجموعة مسلحة".
وبين أن "انعدام المياه دفع بالسكان للذهاب نحو النهر وجلب ما يستطيعون حمله واستخدامه في الأمور اليومية، ولأنه غير معقم فقد تسبب في إصابتهم بأمراض خطيرة للغاية كأمراض الكلى".
وتابع: "وما فاقم معاناتهم أن المشافي والمراكز الصحية اليوم أعلنت عجزها عن استقبال المرضى مهما كانت حالتهم الصحية بعدما قطعت عنها الطاقة الكهربائية وتوقفت الأجهزة عن العمل ونفدت الأدوية من المخازن".
الجبوري أوضح أنه "خلال الشهرين الآخرين سجل عشرات الحالات المأساوية بين أهالي الجانب الأيمن للموصل التي تسبب بها العوز، وهي حالات تقشعر لها الأبدان كإقدام العائلات على صيد القطط وأكلها، والبحث في النفايات للتزود بلقمة العيش، وعمل الحساء من أغصان الأشجار".
من جهته، اتهم المحلل السياسي، عبد الرؤوف طلال العقاد، الحكومة المركزية في بغداد والتحالف الدولي بـ"إبادة آلاف المدنيين العزل دون مراعاة لأوضاعهم الإنسانية والتفهم أنهم لا حول لهم ولا قوة في مواجهة التنظيم وأنهم ضحية لمؤامرة ومخطط بشع يفوق التصور".
وفي حديث للأناضول، قال العقاد إن "من واجب الحكومات مراعاة شعوبها وحمايتهم والحفاظ عليهم من الأزمات قدر الإمكان لا التسبب بزيادة معاناتهم وتجويعهم والدفع بهم نحو ارتكاب الجرائم المختلفة".
العقاد حذر من تفاقم الأزمة الإنسانية في الموصل وتحولها إلى كارثة لضررها على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ليس لمحافظة نينوى (مركزها الموصل) والعراق فحسب، إنما للمنطقة بصورة عامة.
الناشط في مجال حقوق الإنسان، دريد يزن الأحمدي، قال من جانبه، إن "الموصل عزلت عن العالم الخارجي منذ 10 حزيران/ يونيو عام 2014 (تاريخ سيطرة تنظيم الدولة عليها) ولغاية هذا اليوم، فلم تتمكن أي فرقة مدنية أو حتى عسكرية من إدخال مساعدات إلى الأهالي المحاصرين".
ولفت إلى أن جميع المحاولات التي بذلت في هذا المجال فشلت لأسباب عدة، أبرزها تخوف الجهات المانحة للمساعدات، سواء كانت حكومية أم مستقلة، من استيلاء التنظيم على تلك المساعدات والاستفادة منها.
الأعظمي طالب أطراف النزاع المسلح على أرض الموصل باحترام الحياة المدنية ومراعاة أوضاع السكان وتحييدهم في الحرب وأضرارها قدر الإمكان، رافضا أن يكون المواطن وقودا لحرب "لا ناقة له فيها ولا جمل".
وقد تكون الأيام القادمة حبلى بتطورات الأحداث التي تخص الوضع الإنساني في الجانب الأيمن للموصل، بعدما انخفضت وتيرة الحرب في الجانب الأيسر وتوجهت الأنظار صوب المحاصرين، على أمل تصحيح الأمور وإرجاعها إلى مسارها الاعتيادي في القريب العاجل.