فارق كبير بين "الكفر" و"التكفير".. ذلك أن الكفر هو الإيمان بشيء مع الكفر بنقيض هذا الشيء، وبهذا المعنى فهناك اقتران حتمي بين الكفر والإيمان، فالمؤمن بالتوحيد هو كافر بالتثليلث في ذات الوقت، والعكس صحيح، والمؤمن بالشيوعية هو كافر بالرأسمالية في ذات الوقت والعكس صحيح، والمؤمن بالليبرالية هو كافر بكل صور الشمولية الديكتاتورية في ذات الوقت، والعكس صحيح.
أي أن كل إنسان في هذا الوجود مؤمن وكافر في ذات الوقت، مؤمن بما يعتقد وكافر بنقيض هذا الاعتقاد، وحتى "اللا أدريون" فإنهم مطمئنون إلى اللا أدرية، وكافرون بكل ألوان اليقين، والعكس صحيح، فأهل اليقين كافرون بكل ألوان العدمية واللا أدرية.
وفي القرآن الكريم تقرير لهذه الحقيقة البدهية الموضوعية: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم" (البقرة 256)، أي أن المسلم هو الكافر بالطاغوت والمؤمن بالله، فهو مؤمن وكافر في ذات الوقت والحال.
أما التكفير فهو شيء آخر تماما، إنه حكم على الضمائر والسرائر والنوايا وما في القلوب بما يناقض ظواهر أصحاب هذه الضمائر والسرائر والنوايا والقلوب، كالحكم بالكفر على من يظهر الإيمان، والحكم بالتثليلث على من يظهر التوحيد، أو العكس، والحكم بخيانة الوطن على من يظهر الولاء له.
وعلى حين يقر الإسلام الحقيقة البديهية التي تجعل الكفر والإيمان وجهان لعملة واحدة، فإنه يرفض تجاوز الإنسان - أي إنسان - الحدود التي تجعله يحكم على الضمائر والنوايا بعكس ما يظهر أصحابها.
فالإمام النووي (631 - 676 هـ 1233 - 1277 م) يقول لقارئ شرحه لصحيح مسلم: "إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه".
والإمام القرطبي (671 - 1273 هـ) يقول في تفسيره للقرآن الكريم: "إن الأحكام تناط بالمظان والظاهر، لا على القطع واطلاع السرائر، فالله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر".
وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450 - 505 هـ، 1058 - 1111 م) يوصي تلميذه فيقول: "يجب أن تكف اللسان عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين: لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها، فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل، وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجدت إليه سبيلا، فإنه استباحة للدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم".
وشيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ، 1263 - 1328 م) يقول: "والذي أختاره ألا نكفر أحدا من أهل القبلة، وأهل السنة لا يكفرون من اجتهد فأخطأ، وإن كان مكفرا لهم مستحلا لدمائهم".
والإمام محمد عبده ( 1261 - 1323 هـ، 1849 - 1905 م) يقول: "أصل من أصول الأحكام في الإسلام: البعد عن التكفير، ولقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر".
هذا هو دستور الإسلام، كما جاء في تراث أئمة أهل السنة والجماعة، عبر القرون، وعلى اختلاف مذاهب الإسلام.
إن الدكتور محمد عمارة بالرغم من باعه الطويل في الفكر الإسلامي والمعروف بدفاعه المستميت عن الإسلام وشرائعه، إلا أن قضية الكفر والتكفير لم يؤصلها تأصيلا شرعيا كما ينبغي.
وأرى ان مداخلته في الموضوع لم توضح المسألة وضوحاَ دقيقا، بحيث راح يشرق ويغرب بين الكفر والتكفير محلقا في السماء دون النزول إلى التفصيل لتبيان ما معنى الكفر الذي نصت عليه النصوص الشرعية وما معنى التكفير...؟ وهل هو وصف أو حكم ؟ يطلق على صنف أو شخص أو فئة معينة...!!!
هذا لم يبينه الدكتور محمد عمارة، وأعتقد أنه التحق بالفريق الذي بات يخفي الرأي السديد في المسألة خشية اتهامه بالتكفير الذي أمسى مودة جاهزة عند غير المسلمين لتعطيل الأحكام الشرعية.
د. م وائل نصرالله نادري
الأحد، 22-01-201712:07 م
حفظ الله د عمارة كم له فضل على المسلمين. لقد آتاه الله علما كثيرا ونظرا ثاقبا ودقة تعبير عجيبة، فاللهم أجزل ثوابه وبارك في عطائه ورده من كل خير