لم تمت الثورة في تونس، وهناك أكثر من دليل على ذلك. لكن في المقابل لم تحقق الثورة كل أهدافها، وهي تتلقى الضربات كل يوم وفي كل ليلة عندما يجتمع المتربصون بها ليخططوا كيف يكتمون أنفاسها التي لا تزال تلهم المؤمنين بها، وتدفعهم إلى الصمود والمقاومة من أجل الحيلولة دون الانتكاس والارتداد إلى الخلف. هذا ما تؤكده أجواء الذكرى السادسة للثورة التونسية.
يعتبر شهر يناير من أصعب الأشهر في تونس لأنه يختزن ذكريات التمرد والعصيان منذ عهد الرئيس الأول الحبيب بورقيبة؛ إذ في عهده، وهو الرجل ذو المكانة عند التونسيين، أكد الشعب التونسي أنه غير مستعد ليذعن لإرادته السياسية عندما يخطأ قائده ويحاول أن يلزمه بقرار خاطئ وظالم. ولهذا السبب بالذات حصل صدامان قويان. كان أولهما عندما قرر النظام كسر شوكة الاتحاد العام التونسي للشغل عن طريق القوة، وذلك بعد حقبة طويلة نسبيا من سياسة التطويع والإخضاع. وبالرغم من أن القيادة النقابية يومها كانت جزء من الحزب الحاكم، إلا أن رغبتها في الاستقلال عن السلطة التنفيذية والقيام بدورها المطلبي والناقد للسياسات الليبرالية كلفها الكثير، حيث اندلعت المواجهات بين الطرفين، وتم يوم 26 يناير 1978 الإعلان عن الإضراب العام، فكان رد السلطة هو تنزيل الجيش، وإطلاق النار على المواطنين وسقوط المئات من الضحايا. فكان يوما داميا فضيعا ومكلفا في الأرواح، لكنه غير مسار البلاد، وكشف عن وجود أزمة حادة داخل النظام، وهو ما مهد تدريجيا إلى إزاحة الرئيس بورقيبة عن الحكم بعد عشر سنوات فقط من تلك الأحداث.
وفي نفس العهد، قرر الوزير الأول محمد المزالي رفع أسعار الخبز في محاولة منه الحد من عجز الميزانية، فإذا به يواجه باضطرابات واسعة النطاق منذ صبيحة 3 يناير 1984، حيث نزل الجيش مرة أخرى ليواجه الشعب الأعزل فسقط أيضا عدد من المدنيين مما أثر كثيرا على صورة تونس في العالم.
وهو ما جعل بورقيبة يدرك فداحة الخسائر التي أصابته شخصيا فلم يتردد في أن يعلن إلغاء قرار الزيادات في ثمن الخبز، ويقرر العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع، فقلب بذلك اتجاه الأحداث، ونزل المواطنون إلى الشارع لا لانتقاد السلطة، ولكن للهتاف بحكمة "المجاهد الأكبر"، وهي التسمية التي كان يحبها بورقيبة ويريد سماعها من مواطنيها لأنها تغذي نرجسيته العالية.
لكن الأهم من كل ذلك أن شهر يناير من سنة 2011 كان شهرا حاسما حيث وضع حدا لحكم الرئيس بن علي، وذلك عندما اتسعت رقعة الاحتجاجات التي استمرت قرابة الشهر، ودفعت به إلى قطع عطلته التي كان يقضيها مع أسرته خارج البلاد. ومنذ ذلك التاريخ وكل الحكومات المتعاقبة على السلطة في تونس أصبحت – مهما كانت شعبيتها - مسكونة بالهواجس المرعبة لهذا الشهر المخيف، شهر يناير. لماذا؟ لأنه الأكثر سخونة وتعقيدا وهيجانا، والذي يشهد باستمرار ودون توقف حركات احتجاج واسعة النطاق، لأن التونسيين في هذا الشهر بالذات يتذكرون كل مآسيهم التي لم تعالج إلى حد الآن، خاصة في تلك المناطق والمحافظات التي لا تزال تنتظر حلولا عاجلة وليس وعودا مغرية طالما وزعها الوزراء والسياسيون على المواطنين دون أن تكون مصحوبة بخارطة طريق واضحة وملزمة لأصحابها.
في هذه السنة تكرر ما حدث في السنوات السابقة، حيث تحركت سيدي بوزيد، واعتصم أهالي بن غردان، واحتجت مناطق الشمال الغربي. ووجدت حكومة الشاهد نفسها في مأزق شديد دفعها للتعبئة الإعلامية والسياسية عساها أن تخفف من درجات الاحتقان.
أما السبب الرئيسي وراء ذلك هو أن هذه المناطق وغيرها لا تزال تقف في نفس المكان الذي وقفت فيه قبل ست سنوات، وترفع نفس الشعارات التي رفعتها سابقا، بعد أن أدركت بأن الطبقة السياسية بيمينها ويسار ووسطها تبدو عاجزة عن تغيير الأوضاع بشكل جدي، ولا تملك الخيال السياسي المبدع. الجميع يرفعون الشعارات، ويرددون نفس الوعود، ولا يحققون أي شيء ملموس من شأنه أن يقنع السكان بأن الأرض تتحرك، وأن المشهد يتغير.
صحيح تونس مستقرة إلى حد ما مقارنة بغيرها من الدول التي وصلت إليها شرارة الثورة والتمرد، لكن بدون حلحلة الملف الاقتصادي والاجتماعي لا تستطيع الثورة أن تبقى صامدة إلى الأبد.