بدأت في الحادي عشر من كانون الثاني 2017 في أنقرة سلسة لقاءات بين ممثلين من الجيش الحر والمعارضة السورية السياسية وضبّاط روس ومسؤولين أتراك، وتهدف الاجتماعات لنقاش اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم إعلانه في التاسع والعشرين من كانون الأول، وحجم الخروقات التي وقعت خلاله وعلى رأسها تأزم الوضع الإنساني المتردي في وادي بردى. ومن المتوقع أن يتم طرح عدّة وثائق تناقش مكافحة الإرهاب، ومسار الحل السياسي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وذلك تجهيزاً للمفاوضات المزمع عقدها بعد عشرة أيام في العاصمة الكازاخستانية آستانة. وإذ تستثمر تركيا الكثير من الجهود في إنجاح هذا المسار الجديد، فإن نتائجه بشكلها ومحتواها محدودة بالواقع. وتعتري الدبلوماسية التركية مجموعة من الصعوبات أمام الوصول إلى اتفاق شامل يصون مصالحها في سوريا، أهمها غياب الولايات المتحدة المقلق، وعدم وضوح الرؤية في التعامل مع الاتحاد الديموقراطي، واحتفاظ إيران بقدرتها على المراوغة.
غياب أمريكي وأممي
يصعب تخيل لجوء الأمم المتحدة لنتائج مسار تفاوضي لم تشارك جميع الأطراف الدولية المعنية فيه، ويعكس غياب دي مستورا، رغم دعوته لحضور المفاوضات، مدى جدية المجتمع الدولي في التعامل مع مخرجات مسار آستانة المحتملة والتي لم تتعدى حتى الآن سوى دعم الجهود الروسية التركية في إرساء عملية السلام وفق نص قرار مجلس الأمن 2336. وتشير القراءة الأولية لسياسية ترامب الخارجية إلى عدم اعتراض إدارته على مسار آستانة، فهي على وفاق مع رؤية موسكو للحل السياسي في سورية من جهة، وغير راغبة في مواجهة روسيا في جغرافية محسومة لها من جهة أخرى. إلّا أن غياب التمثيل الأمريكي في المحادثات الأولية التي أطلقت المسار، بالإضافة إلى عدم حضورها في المفاوضات اللاحقة يشير إلى عدم اعتماد آستانة بديلاً أصيلاً عن جنيف. وفي حين يوجد اتفاق دولي في ضرورة تقبل دور روسيا المتقدم في سوريا بحكم وجودها العسكري في البلاد، إلا أن عتبة تحمل تنامي حجم الدور التركي متفاوتة من دولة لأخرى، وهذا ما يعزز بدوره القراءة التي تؤمن بحتمية تقديم تركيا للمزيد من التنازلات للمجتمع الدولي مقابل إنجاح مفاوضات آستانة.
إقصاء وكلاء جبل قنديل
برع حزب الاتحاد الديموقراطي في قراءة المزاج الدولي منذ بدء نشاطه في الصراع السوري، ولقد أقام عدداً من التحالفات مع القوى الدولية والإقليمية بما يتقاطع مع مصالحه وأهدافها المرحلية والاستراتيجية في المنطقة. فبالإضافة إلى تضلع الحزب لمحاربة داعش بما أكسبه دعماً دولياً في أعماله العسكرية وتسليحه، فلقد قام الحزب:
1. بتشكيل ائتلاف عسكري مع قوات عربية محلية تحت مسمى "قوات سوريا الديموقراطية" طمعاً باكتساب شرعية دولية في حكم معظم شمال سوريا المتنوع قومياً وإثنياً.
2. وآثر التعاون الأمني والعسكري مع النظام وإيران مقابل اعترافهما المؤقت بشرعية وجوده في مناطق نفوذه.
تأمل أنقرة من اقصاء الاتحاد الديموقراطي عن مسار آستانة تأجيل قرار الحسم أو التعامل معه، وفي ظل غياب قرائن كافية تشير إلى قطيعة الروس مع الحزب بالإضافة لتمتعه بدعم إدارة ترامب، فإن قرار استبعاده لا يعدو غير إجراء مؤقت ستضطر تركياً عاجلاً أم آجلاً لتبني غيره. وفي حين تصّر بعض القراءات على التقاء مصالح دمشق وأنقرة في لجم الطموح الكردي، فإن الواقع يشير إلى ضعف الموقف التركي في اتمام هذه المساومة، فليس ثمة ما يدفع النظام لمواجهة الاتحاد الديموقراطي الآن، وهو متعاون معه، غير عودة اعتراف تركيا به.
لجم الطموح الإيراني
شهدت الساحة الأكاديمية، وذلك منذ بداية التدخل الروسي في الجغرافية السورية، عدّة تحليلات تفيد بضجر روسيا بدور إيران في الصراع السوري، وازدادت تواتراً بعد اتفاق إجلاء الثوار من حلب الشرقية وما شهده من مقاومة إيرانية أثناء تنفيذ بنوده. وتعمد هذه القراءات على تفسير بعض حوادث الشد والجذب بين الحليفين بازدياد حالة الشك بينهما، فطهران لا تثق بصدق نوايا الروس اتجاهها، وموسكو بدأت تضيق ذرعاً بتعدد أذرع الحرس الثوري الإيراني في سوريا وحجم تحكّمها بمؤسسات الدولة السورية.
ولكن كثيراً ما يغفل أصحاب هذه الآراء عن علاقة الاعتماد المتبادل بين الدولتين، فلم يكن للمليشيات المدعومة من إيران الانتصار دون الغطاء الجوي الروسي، ولم يكن للسلاح الجو الروسي أن يحدث فرقاً دون وجود العامل البشري الإيراني. ويصعب تخيل أن يقدم أحد الطرفين عن التضحية بالآخر دون وجود بديل جدير بالثقة، فلن تعتمد إيران على التحالف الدولي وقد جعل منها ترامب خصمه الأول في المنطقة بعد داعش، ولن تعتمد روسيا على المعارضة السورية ما دامت لم تأمن عداوتها الأصيلة للمنظمات الراديكالية.
من الجدير بالذكر أن إيران كانت الطرف الثالث لإعلان مسار آستانة، قبل أن يتجاهل نص القرار 2336 ذكر جهودها، ولا يجب الإسراع بالحكم على غياب مشاركتها في رعاية المؤتمر بأنه اقصاء لها، فهو إمّا اجراء لتشجيع المعارضة السورية على المشاركة في المفاوضات أو تكتيك إيراني لتحسين تموضعها وفرض شروطها للقبول بمخرجات المسار لاحقاً، أو أنه كلاهما معاً. لا يوجد ثمّة ما يدل على وجود تصعيد بين تركيا وإيران، أو ما يشير إلى مبادرة الحكومة التركية بذلك على الأقل، بل العكس، فزيارة بن علي يلدريم لبغداد ولغة المصالحة التي تصدرّت البيان المشترك للقاء بينه وبين العبادي تشير إلى رغبة أنقرة لتهدئة الأزمة السياسية بينها وبين إيران.
طموح محدود بالواقع
جل ما يمكن أن يطمح الأتراك لتحقيقه في آستانة وفق القراءة السابقة هو تعويم المعارضة السورية المشاركة في عمليات درع الفرات بعد أن باتت في موقع "الربية" من خلال تعاملها مع جبهة النصرة أو تم تجاهلها بحكم تراجع أداءها العسكري. وتأمل أنقرة في إنجاز اتفاق يعطي شرعية دولية جديدة للجيش الحر في محيط المنطقة العازلة ضمن مثلث جرابلس – أعزاز – الباب، ويحافظ على حظوظها في الاندماج بجيش وطني جديد بموجب تسوية سياسية مع النظام برعاية روسية. وتحقيق كل ما يتعدى ذلك يتطلب من تركيا من تقديم تنازلات أشبه ما تكون بالمراهنات.
وأمّا التعويل على تأزّم العلاقات الروسية الإيرانية في استمالة موسكو واقصاء طهران خارج سوريا، فهو رهان أخطر ومقدمة لهزيمة سياسية كبرى. على المعارضة السورية المشاركة في مسار آستانة أن تدرك سقف ما يمكن تحقيقه في هذه المفاوضات ومدى خطورتها فيما لو استمر تواضع أدائها السياسي. ولعل أهم ما تعيه أنها ليست في موقع المساوم في وقف تمدد إيران كما يحلو للمتفائلين الإيمان به، فهي أضعف الفواعل فيما لو اجتمعت روسيا وأمريكا وتركيا على هذا الهدف.
إن أبواب التعامل مع المجتمع الدولي في سوريا أغلقت إلا باب مكافحة الإرهاب، وهذا ما أدركته تركيا بعد محاولات الاتحاد الديموقراطي وإيران لاحتكاره في البلاد، فجاء تدخلها في درع الفرات كمحاولة متأخرة لتغيير المعادلة، وفرص المعارضة السورية في استغلال هذه "الحاجة" الدولية محدودة ما دامت تساوم على سلامتها.