جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إلى العاصمة
العراقية بغداد، يوم السبت، في سياق التحول الكبير الذي شهدته
السياسة الخارجية التركية، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو من العام الماضي، وفي ظل ظروف سياسية وأمنية صعبة تعيشها البلاد، بالتزامن مع اشتداد العمليات الإرهابية التي تضرب الداخل التركي بقوة.
زيارة يلدريم كان عنوانها تطبيع العلاقات مع بغداد، بعد أزمة سياسية عصفت بالعلاقات بين البلدين بسبب تغير الموقف العراقي من وجود القوات التركية في معسكر بعشيقة شمالي الموصل، وطلب حكومة بغداد سحب القوات التركية من المعسكر، وهو الأمر الذي تم التوافق عليه خلال زيارة يلدريم لبغداد في الإعلان المشترك المُعلن في ختام اليوم الأول من الزيارة، ما يعني بداية حل الأزمة بعد شهور من القطيعة.
فسياسة "تطبيع العلاقات الخارجية" كانت الخط العريض لسياسة بن علي يلدريم منذ اليوم الأول لتسلمه المنصب خلفا لأحمد داود أوغلو، في شهر آذار/ مارس 2016، بدءا من تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي في شهر حزيران/ يونيو، لكن محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليز التي أثبتت وهن التحالف التركي الغربي، كانت دافعا قويا أيضا لجهود أنقرة في تفكيك "تحالف الأعداء"، الذي تشكل على هامش الخلافات التي نشبت بين أنقرة والعديد من العواصم في المنطقة بسبب الثورات العربية، وخصوصا ملف الثورة في
سوريا الذي جمع أطرافا متباينة في تحالف العداء لأنقرة سرا وعلانية.
لكن
تركيا أقدمت على الخطوة الأبرز في تفكيك هذا التحالف من خلال تطبيع العلاقات مع روسيا، وإرسال الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان رسالة تعزية لعائلة الطيار الروسي، الذي قتل لدى إسقاط مقاتلات تركية لطائرته الحربية على الحدود السورية، يوم 24 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015، واعتُبر أنه اعتذار تركي لموسكو، ما أكسب تركيا أداة سياسية جديدة في الملف السوري خصوصا، بعد حالة من العجز الجزئي بعد تراجع المعارضة السورية على الأرض منذ التدخل الروسي لصالح نظام الأسد. وهو الأمر الذي مكّنها أيضا من إطلاق عملية درع الفرات في شهر آب/ أغسطس 2016، لطرد تنظيم داعش من المناطق الحدودية، وما كان لها أن تبدأ هذه العملية دون تنسيق مسبق مع روسيا، صاحبة اليد العليا على الأراضي السورية بتدخلها السافر لصالح النظام.
وبعد أكثر من عام على تطبيع العلاقات مع موسكو، حققت الدبلوماسية التركية مكسبا هاما، من خلال الإعلان المشترك لوقف إطلاق النار في سوريا يوم 30 من شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، لتختتم العام 2016 بتموضع سياسي جديد لها.
لكن هذه التحركات السياسية بعيدا عن أوروبا وأمريكا، لم ترق كثيرا لصانع القرار الغربي، وهو ما تزامن مع اشتداد العمليات الإرهابية التي تضرب الداخل التركي، واتهام أنقرة للغرب، إما بالتواطؤ أو الدعم المباشر للمنظمات التي تقف وراء هذه الهجمات، مثل حزب العمال الكردستاني أو ما يعرف بتنظيم داعش الإرهابي.
إلا أن سياسة تركيا في تفكيك "تحالف الأعداء" كان ثمنه تخلي أنقرة عن كثير من مواقفها السابقة، التي كانت عناوين رئيسية في سياستها الخارجية، وتراجعت خطوات سريعة عن كثير من مواقف تشددت بها سابقا، وتسببت لها على ما يبدو بالمتاعب سياسيا وأمنيا، بعد أن اتخذتها بناء على حسابات تختلف كثيرا عن الوضع الراهن، وبناء على تحالفات عقدتها مع أطراف عدة، مثل السعودية التي انسحبت من العمل الدبلوماسي في الملف السوري خصوصا، وباقي ملفات المنطقة بعد فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، مفضلة التريث حتى تتبين ملامح سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة في المنطقة، ما جعل تركيا وحيدة في وجه الاتحاد الروسي وإيران والعراق والنظام السوري.
تحول الموقف التركي في سوريا والعراق وباقي الملفات بهذه السرعة، بقدر ما ساعدها في التخفيف من الضغط عليها بتفكيك جزء من "تحالف الأعداء"، بقدر ما وضعها في تحد جديد أخلاقي وسياسي في قدرتها على تحقيق اختراق حقيقي مع روسيا، في ظل الصعوبات الذي تشهدها اتفاقية وقف إطلاق النار في سوريا، وفي ظل التعنت الإيراني في سوريا والعراق، والتأثير الكبير لطهران في مجريات الأمور في المنطقة الخضراء وقصر المهاجرين.
أخلاقيا أيضا، استطاعت تركيا كسب الرأي العام في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية من خلال مواقفها تجاه الثورات العربية، ودعمها الإنساني لملايين اللاجئين، لكن الحفاظ على التوازن بين تحقيق المصالح الاستراتيجية للداخل التركي مع الموقف الداعم لتطلعات الشعوب أصبح على المحك، خصوصا مع حالة الاستهداف الممنهجة للداخل التركي وتبادل الأدوار بين التنظيمات المختلفة لتفتيت وحدة تركيا ودفعها للانكفاء الداخلي على نفسها.
وعليه، فإن توجه تركيا نحو سياسة تفكيك "تحالف الأعداء" يمكن أن يحقق لها نتائج إيجابية خلال المنظور القريب، لكن ذلك مرتبط بمدى قدرتها على لملمة أوراقها المبعثرة، وامتصاص ردات الفعل الناتجة على التحولات السريعة في سياساتها، وتحديد وجهتا بشكل واضح من كل ملفات المنطقة، والتخلص من حالة الحياد السلبي، وتفعيل سياسة خارجية ناجزة لا تائهة ومترددة.