أصدر السيسي في أكتوبر/تشرين الثاني 2014 قرارا بتعيين الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر أسامة السيد محمود مستشارا دينيا لرئاسة الجمهورية، وفي مؤشر لاستمرار ثقة السيسي في الأزهري أصدر قرارا آخر بتعيينه في البرلمان المصري في ديسمبر/كانون الأول 2015، وتبدو ثقة السيسي فيه كذلك أثناء حضوره الصلوات المنقولة تلفزيونيا وتقدّم الأزهري للخطابة رغم وجود شيخ الأزهر ووزير الأوقاف ومفتي الجمهورية، وتلك الثقة أو الارتياح -على الأقل من الناحية الدينية- تثير تساؤلا حول دور أسامة السيد مع السيسي.
لا بد من التأكيد بداية أن المرء يثق في منهجية الأزهر ومدرسته العلمية، وأن اختلافه مع "الدور السياسي" لبعض رموزه لا يعني خلافا مع الأزهر ولا المؤسسات المنبثقة عنه كالأوقاف ودار الإفتاء، وما يدور في الحلقات العلمية في الجامع الأزهر بتدريس التراث الإسلامي -وليْتَهُ يعود للدراسة الأكاديمية- من أجلّ أدوار الحفاظ على ذلك التراث الثري والقيّم، فضلا عما تفيده تلك المناهج من ضبط العقل واللسان، والحفاظ على المجتمع من الانزلاق للعنف رغم تغذية السلطات المستبدة للعنف بممارساتها الهمجية والوحشية.
الاعتزاز والثقة بما يمثله الأزهر يطرح التساؤل عن دور منتسبٍ له في مؤسسة الرئاسة بما تمثله من مركزية تامة في إدارة شؤون الحكم، في ظل انتهاج رأس السلطة لنهج فردي واستبدادي فضلا عن الممارسات القمعية التي لم تترك وجها من وجوه القمع إلا انتهجته بدءا من الرقابة الشخصية للأفراد دون ضبط يكفل حقوق الأشخاص وحريتهم الشخصية، مرورا بالفلتان الأمني إلا ما تعلق بالحفاظ على السلطة الحاكمة، والاعتقال ومصادرة الأموال وتخريب البيوت، وانتهاء بإزهاق الأرواح خارج إطار القانون أو بليّ أعناق نصوصه أو الضرب بها عرض الحائط.
أثناء حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي كتب الأزهري مقالا في يناير/كانون الثاني 2013 عقب اصطدام قطار بضائع بقطار للمجندين وعنوانه "وامرساه" ذكر فيه: "وأنا أتوجه إلى رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي، وأقول له: هؤلاء جميعا أمانة في يدك، وأنت مسؤول عنهم أمام الله تعالى، وقد بلغ الإهمال من المسؤولين عن شعبك أن الكوارث تحصده حصدا كما ترى، فلا تتهاون في محاسبة المسؤول مهما كان حجمه ومركزه، وإلا فدماؤهم في رقبتك، وها نحن نمتثل لما علمنا إياه الدكتور صفوت حجازي، ونقول: وامرساااااه، فهل من مجيب؟" كان حينها الأزهري يرى أن الرئيس مسؤول عن تلك الحوادث وهو محق في ذلك، وربما يجدر التنبيه على أن مسؤولية التقصير أو الإهمال ليست بنفس درجة الخطورة والتلبّس من مسؤولية الأمر المباشر، ولم نرَ خطابا مثله للسيسي المسؤول عن قطارات تصادمت وعقارات انهارت، والأهم عما اقترفه بالأمر المباشر من بيع للوطن وتخريب للاقتصاد وتفتيت للُحمة المجتمع وتقييد للحريات وإزهاق للأرواح.
هل نصح أستاذُ الأزهر رئيسَه ونبّهه إلى أن مصر أصبحت تتذيل كل التقارير العالمية في مؤشرات التقدم والترقي، وأن تلك المكانة انحدرت زيادة عقب انقلابه؟ هل نبّهه إلى أن القتل خارج إطار القانون محرم شرعا وأن أول ما يُفصل فيه بين العباد يوم القيامة الدماء؟ هل أخبره أن الشرع يأمر بالعدل وينبذ الظلم؟ هل أخبره أن خلف الوعد من خصال المنافقين، وأن من دعا الناس لانتخابه على شروط اشترطها بنفسه على نفسه ثم لم يوفّ فهو كاذب ويمكنهم الدعوة لفسخ ولايته؟ هل أخبره أن التبذير على حفلاته والدعايات الكاذبة في وطن يئن أبناؤه من شظف العيش محرم؟ هل أخبره أن دعوة الناس للتقشف ممن يعيش في رغد العيش دعوة عابث ذي وجهين لا يتحمل مسؤولية منصبه؟ هل أخبره أن معاقبة الناس بناء على أفكارهم وقناعاتهم أمر لا تقوم معه دولة ولا ينصلح بها حال المجتمع؟ هل أخبره أن الاحتكار حرام يستوي في ذلك إن كان من مؤسسة أو فرد؟
إذا كان الأزهري يتماهى معه في سياسته أو يخشى من الجهر بمعارضته في أمور السياسية، أيخشى كذلك من نصحه فيما ارتبط بالدين والأخلاق؟ ألم يخبرْه أن مؤسسته التي حمَلته للرئاسة لا يليق بها أن تدعو راقصات في حفلاتها وأن ما ترتديه الراقصات يفسد النفوس وهو محرم؟ هل سكت الأزهري عن كل ذلك ليبدو كأنه باع دينه وظن أنه يحمي حمى الدين بمهاجمة الجماعات السياسية الإسلامية مع الإقرار بما فيها من عيوب؟
هذا الرجل الذي تلطف مع كلب وقال معقبا على ناقديه: "لعل الله تعالى أن يملأ قلوبنا بمعنى الرحمة، ليس بالإنسان فقط، بل بكل كائن حي، بل بالكون كله" ألَا يتلطف ويرحم بشرا خالفهم في رؤيتهم، أم أن مظاهر الرحمة بالحيوان مقابل القسوة مع الإسلاميين مجرد مغازلة لأصحاب النعمة والسلطة داخليا وخارجيا؟ أليس كان ينبغي عليه أن يذهب في عزاء من سقطوا في مجازر الخلاف مع السلطة كما ذهب معزّيا الذين سقطوا في تفجير الكنيسة البطرسية؟ ولا إنكار عليه في عزاء الكنيسة بل هو واجب على كل من يقدر على التعزية في مصاب كهذا.
لم يكن لأحد أن يحمّل أسامة الأزهري شيئا من هذا، إلا أنه أطلق لسانه على مخالفيه، فاستدعى مقارنة المواقف السابقة باللاحقة، وهذا لا ينفي وجوب نصح حَمَلَة الشريعة لأي حاكم اعوجّ سيره عن جادة الصواب بعيدا عن مواقفهم السابقة واللاحقة، ونحن لا نجد أثرا لوجود الأزهري مع السيسي لا في سلوك العدل ولا في سلوك الرحمة ولا في سلوك الأخلاق، إلا تشبيك الأيدي الذي يتشابهان فيه أثناء وقوفهما أمام من يحدّثهم.
غيرتُنا على الأزهر وعلى منهجه وتراثه وعلى مناصبه الرسمية تدعونا للحفاظ عليه والدفاع عنه من منتسبيه قبل خصومه، ولا يصح لمنتسب له أن يتنكّب عن منهجه ودعوته، ولا أن يأخذه مطيّة لبلوغ منصب ديني أعلى، وينبغي على حملة الرسالة أن يضعوا بين أعينهم قول الله تعالى: "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحد إلا الله وكفى بالله حسيبا".