بعد أشهر معدودة من نشوء الأزمة السورية عام 2011، كانت الجمهورية الإسلامية
الإيرانية حاضرة في
سوريا، انطلاقا من قراءتها لهذه الأزمة في إطار ما يُعرف بالمؤامرة الدولية والإقليمية على محور الممانعة والمقاومة من خلال استهداف سوريا.
ثم تدخلت
روسيا عسكريا في 30 أيلول/ سبتمبر 2015 بقوة إلى جانب النظام السوري، ترجمة للقراءة الروسية الجديدة لدورها الإقليمي والدولي في ظل التراجع الأمريكي، سواء كان هذا التراجع مقصودا أم لا، وانتقال الولايات المتحدة من التدخل المباشر إلى التدخل غير المباشر في الملفات الإقليمية، في عهد الرئيس باراك أوباما.
على الرغم من الترحيب الذي لقيه الدور الروسي الجديد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي وجدت فيه سندا لها في مواجهة خصومها وأعدائها، إلا أن هذا الترحيب كانت تشوبه حالة من التوجس والحذر.
أسباب التوجس الإيراني من الدور الروسي تعود إلى عدم ثقة الوجدان الإيراني التاريخي بروسيا ودورها في المنطقة، بدءا من الدور السوفييتي السلبي في إفشال الحركة الدستورية الإيرانية عام 1905ـ 1907، التي كانت الحدث الأبرز آنذاك في غرب آسيا، والوقوف إلى جانب الحكومة العراقية في حرب السنوات الثماني، وصولا إلى تصويت روسيا الاتحادية لصالح قرارات عقوبات أممية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مجلس الأمن الدولي، في الأعوام الماضية.
جملة هذه الأحداث والأدوار الروسية السلبية خلقت انطباعا سيئا عن روسيا في أذهان الإيرانيين، وأظن أن هذا الانطباع أيضا كان حاضرا لدى السلطات الإيرانية، حين الوصول إلى تفاهمات مع موسكو بشأن سوريا.
لذلك؛ فالحديث عن تحالف استراتيجي بين البلدين لا يبدو منطقيا، وهو مرتبط بجملة عوامل ومحددات لا تقتصر على المحدد السوري فحسب، فما حدث لا يتجاوز "توافق أو تحالف الضرورة" في سوريا، إذ إن دعم "الحليف المشترك" فرض تواجدا عسكريا من الجانبين، انطلاقا من جملة مصالح تتقاطع في حالات وتتباين في أخرى، وربما المصلحة المؤقتة المشتركة بين الطرفين تتمثل في الوقوف إلى جانب الحكومة السورية التي تمثل البوابة الرئيسة لضمان مستقبل هذه المصالح.
وفي هذا السياق، برزت مصالح متشابكة ومتداخلة بين الدولتين على المدى القريب، وعلى المدى المتوسط كذلك، منها دعم الحليف المشترك، والوقوف بوجه العدو أو الخصم المشترك، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وتشكيل تحد لها في سوريا وعموم المنطقة، دون الرغبة في وصول ذلك إلى مواجهة معها.
ومن ناحية أخرى، إلى جانب هذا التشابك في بعض المصالح، ظهرت مؤشرات حول وجود تباين ما أحيانا في التوجهات والمصالح.
فعلى سبيل المثال، صرّح المسؤولون الروس أكثر من مرة بأن بقاء الرئيس السوري "بشار الأسد" في منصبه ليس خطا أحمر لروسيا، عكس موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فما تريده روسيا هو بقاء هيكلية النظام والجيش السوري، وهنا لا يهمه شخص "الأسد" كثيرا.
بالمجمل، ما تقصده روسيا في سوريا ليس بالضرورة ما تريده الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولعل ذلك يعود إلى محددات متعارضة لسياسات البلدين في المنطقة، منها سوريا، تظهر في طبيعة مختلفة لشبكة العلاقات الخارجية، وجملة توجهات وأهداف متباعدة أحيانا للدولتين في سبيل تحقيق مصالحهما الاستراتيجية المستقبلية.
هنا وفي هذا السياق، بينما يشكّل الوقوف في وجه الهيمنة الأمريكية محدّدا مشتركا في سياساتهما، إلا أن هناك أيضا ثمة محددات متباينة تحكم تلك السياسات، فعلى سبيل المثال، العلاقات الروسية الوطيدة مع كل من الكيان الصهيوني ودولة تركيا، لها إفرازات وانعكاسات على مجمل الأوضاع في سوريا.
ليست لصالح السياسات الإيرانية بشكل عام، التي تنطلق من مبدأ معاداة هذا الكيان في المنطقة عموما، فكما هو معروف، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترى في الكيان الصهيوني عدوا لدودا، بينما تراه روسيا صديقا حنونا لم ترغب في إزعاجه بمنعه للوصول إلى أهداف قريبة من إيران في سوريا رغم السيطرة الروسية الكاملة على السماء السوري، مثل قصف مواقع وقوات تابعة لحزب الله اللبناني.
كما أن العلاقات التركية الروسية التي سرعان ما تحسنت بعد واقعة إسقاط الطائرة الروسية بشكل أكثر عمقا من قبل، كانت لها انعكاسات سورية نتيجة تفاهمات "قوية" بين موسكو وأنقرة، ترجمت بدخول القوات التركية إلى شمال الأراضي السورية من خلال عملية "درع الفرات"، ما يعني أن هذه العلاقات قد تكون لها ارتدادات سلبية على المصالح الإيرانية في سوريا وعموم المنطقة.
ربما يأتي في هذا السياق اتفاق وقف إطلاق النار، الذي توصلت إليه تركيا وروسيا معا يوم الخميس الماضي، الذي جاء عكس التوقعات بعد استعادة قوات النظام السوري السيطرة على شرق مدينة حلب، حيث كان يُفترض أن يُواصل هذا التقدم في ساحات قتال أخرى، لكن على ما يبدو "المصالح الروسية العاجلة" حالت دون ذلك، وأوقفت هذا السير لصالح رغبة روسيا في الوصول إلى تسوية قبل أن يحط دونالد ترامب قدميه في البيت الأبيض.
هنا روسيا وجدت أن هذه الفترة القصيرة التي تتداول فيها السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية تشكّل فرصة لها، لكي تلملم الوضع السوري سريعا، وربما سعيا منها لانسحاب "محترم" من المستنقع السوري كطرف رئيس في الأزمة، وذلك وفق دور جديد ترسمه لنفسها بما يضمن لها مصالحها ونفوذها على المدى الاستراتيجي البعيد.
فمن هذا المنطلق، يبدو أنها بدأت تتحول كطرف في النزاع في سوريا إلى "شبه وسيط" بين النظام السوري وحلفائه وبين المعارضة السورية.
فعلى الرغم من أن معظم القتلى من المعارضين والمدنيين سقطوا بسبب قصف سلاح الجو الروسي، إلى أن المعارضة السورية خففت من لغتها تجاه روسيا، وأصبحت تتفاوض مباشرة معها، بينما صعّدت خطابها تجاه طهران وترفض التفاوض معها.
وهذا ظهر جليا في المؤتمر الصحفي الذي عقدته المعارضة السورية في إسطنبول بعد الإعلان الروسي التركي عن اتفاق وقف إطلاق النار.
هنا، وفي سياق الدور الجديد الذي بدأت ترسمه موسكو لنفسها، فإن السيناريو الأسوأ الذي قد يحدث، لكنني لا أراه واردا في الوقت الحاضر، أن روسيا كأحد الضامنين لنجاح اتفاق وقف إطلاق النار، إن وجدت أنه ليس بمقدورها القيام بدور مطلوب في ضمان نجاح وقف إطلاق النار، قد تقرر عدم التغطية الجوية لعمليات الجيش السوري البرية مستقبلا إن انهار الاتفاق فعلا.
الآن وفي ظل هذه السردية، إن اتخذت المصالح الإيرانية الروسية منحى تباينيا، يُستبعد أن تتفاجأ به طهران في ظل ما ذهبنا إليه في بداية المقال حول الصورة التاريخية للروس في أذهان الإيرانيين.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا، أنه هل بإمكان روسيا أن تتجاهل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سوريا إذا اشتدت حالة الافتراق بين تلك المصالح؟
في الإجابة على هذا التساؤل، لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أمرين، أولا يُستبعد أن يكون ذلك واردا في ميزان الاستراتيجية الروسية الكبرى للسياسة الخارجية التي تحتل فيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيزا مهما.
فمن هذا المنطلق، ثمة إشكاليات هنا وهناك قد لا تؤثر كثيرا بهذا الموقع.
ثانيا، عوامل القوة التي يمتلكها الجانبان في سوريا، تصعب عليهما تجاهل الآخر، فكما تسيطر روسيا على السماء في سوريا بفضل سلاحها الجوي، أيضا طهران تسيطر على الأرض وتدير المعارك في الميدان وعلى أرض الواقع.
لذلك، نجاح أي خطة أو توافق وحل يقتضي عدم تجاهل الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودورها، لأن من شأن ذلك أن يولد أي اتفاق ميتا.
نعم، الاستدارة الروسية نحو تركيا قد لا تكون في صالح إيران، لكن هذا لا يعني أن ذلك سيكون لصالح الحل السياسي للأزمة السورية بعيدا عن أحد الأطراف الرئيسة، أي الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي هذا المضمار، إذا شعرت طهران أن هناك تجاهلا لها ولدورها في سوريا، فمن الصعب أولا نجاح عملية وقف إطلاق النار، وثانيا في هذا الإطار، يُستبعد أن تتكلل المفاوضات السياسية المزمع عقدها في العاصمة الكازاخستانية "أستانة" بالنجاح، إن انعقدت تلك المفاوضات فعلا؛ لأن موعدها لم يتحدد بعد، وعقدها أصلا مرتبط بنجاح اتفاق وقف إطلاق النار.
أضف إلى ذلك القضايا المصيرية الصعبة التي ستكون على طاولة المباحثات السياسية حال عقدها في "أستانة، التي حلها ليس بهذه السهولة.
في المقابل، إن لم يحدث هناك تجاهل ما لأي من أعضاء "المثلث الروسي الإيراني التركي" فيما بينهم، قد ينجح هذا المثلث في الوصول إلى حل وسط للأزمة السورية، يوقف نزيف الدم السوري وحالة المأساة التي يعيشها هذا البلد منذ خمس سنوات.
لكن، نظرا إلى مصالح قوى دولية وإقليمية أخرى في النزاع السوري، على الأرجح ستواجه مساعي هذا الترويكا عراقيل عديدة، ما قد تحول دون حل هذه الأزمة.
خلاصة القول، إنه رغم ظهور مؤشرات على بروز تباينات بين المصالح والسياسات الإيرانية الروسية في سوريا، إلى أنه من المبكر الحديث عن استدارة روسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في سوريا، تضع سياساتهما في مواجهة البعض.
فعلى الأغلب، أن التوجه الأمريكي المقبل في إدارة الرئيس ترامب تجاه العلاقة مع روسيا يشكّل عاملا مهما في شكل السياسات والتحالفات الروسية في المنطقة، خاصة في سوريا، ففي حال غلبت على هذا التوجه حالة العداء كما عليه اليوم، يُفترض أن يحول ذلك دون وقوع تباين واضح في مسار السياسات الإيرانية الروسية في سوريا.
لكن، إذا حصل العكس، وشهدت المرحلة المقبلة تقاربا بين بوتين وترامب، فقد يكون ذلك على حساب السياسة الإيرانية في سوريا.
في الختام، لا بد من التأكيد أنه في ظل حالة الغموض القائمة في عموم المنطقة، وعدم معرفة توجهات الإدارة الأمريكية القادمة في التعامل مع القضايا الإقليمية، المؤشرات الدلالية التي تظهر في هذه الأجواء المضطربة تتغير بين ليلة وضحاها، بالتالي، فالتحليلات الاستشرافية المبنية على تلك المؤشرات قد لا تكون دقيقة في كثير من الأحيان.