كتبت من قبل أنادي بأن يتحول مسؤولو جماعة الإخوان المسلمين إلى خبراء لا مدراء، وأنه يكفي على كل من تولى منصبا تنفيذيا، أو كان في موقع في المسؤولية أدى بنا إلى النتائج التي نعيشها الآن، والتي تغني عن سرد تفاصيلها، أن يتحول هؤلاء عن سدة القيادة، إلى موقع نقل الخبرة، وتجديد دماء الإدارة بما يتواكب مع تحديات المرحلة، وغضب وقتها من غضب، وهاجمني من هاجم، وهو أمر معروف في كل الدنيا، عندما تخطئ إدارة ما في إدارة ملف، يجلب كوارث عليها وعلى صفوفها، أن تبادر بتقديم استقالتها للحزب أو الجماعة، أو الصف، فإما أن يجدد الثقة فيها، أو يرجعها إلى صفوفه، جنودا مطيعة، كما علمتهم نظريا هذا الأمر، ليكون واقعا عمليا، وأسوة تطبق، لكن للأسف قوبل الكلام والمناشدات والوساطات بما لم يكن متوقعا، وكان آخرها مبادرة العلامة الشيخ القرضاوي ومن معه من العلماء.
ومنذ أيام والصف الإخواني على كل الجبهات في حراك مستمر، سواء تؤيده هنا أو ترفضه هناك، لكن ما لفت نظري أمران مهمان جديدان على أدبيات الإخوان وتطبقياتها بعد انقلاب العسكر في مصر، وهو استقالة المتحدث الإعلامي في مصر الأستاذ محمد منتصر، ثم بعده بأيام أعلن نفس الأمر الدكتور عمرو دراج، وأنه مستمر في العمل والحراك، لكن في موقع آخر بعيدا عن أي مواقع قيادية أو سياسية، في مشهد يعيد للأذهان شخصيتين عظيمتين في تاريخ جماعة الإخوان، وقد كتبت عنهما تفصيلا في مقال لي بعنوان (إلى قيادات الإخوان: كونوا كالهضيبي وعاكف)، الشخصية الأولى هي الأستاذ مأمون الهضيبي المرشد العام لجماعة الإخوان رحمه الله، هذا الرجل العظيم الذي استشعر الخطر بجماعة الإخوان، وحاجتها لأن تجدد في قيادتها، وفي أخطر منصب فيها وأكبره، وهو منصب المرشد، فكانت رسالته للشيخ القرضاوي عبر المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة، بأن الهضيبي مستعد أن يتنازل للقرضاوي عن منصب المرشد، وأنه سيذلل له كل الصعاب داخل التنظيم، ولكنه اعتذر عن ذلك بلطف.
والشخصية العظيمة الأخرى هي الأستاذ محمد مهدي عاكف، والذي رفض التجديد له لمرة ثانية، وأصر على ذلك، رغم إلحاح الكثيرين عليه، وأعتقد أن رفضه كان لسببين اثنين مهمين، أولهما: أن الرجل أراد أن يعطي نموذجا للجميع، بوجود مرشد سابق على قيد الحياة للإخوان، وهي تدل على قوة الرجل. والأمر الثاني الذي يشترك فيه دكتور عمرو دراج مع الأستاذ عاكف، وهو ما يوجزه الشاعر بقوله:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
نعم نحن نحيي في عمر دراج أخذه خطوة للخلف من الأمور القيادية التنظيمية، ولكن جزءا من هذه الخطوة جاء نتيجة أن الرجل قد تسلط عليه بعض من لا يراعي تاريخه، بل وصل الحال للمز والغمز، وهي آفة أصبحت سائدة الآن في العمل العام، فما أسهل أن يزايد عليك، وما أسهل أن تنطلق عليك شائعة لا أصل لها إلا لسان كاذب أطلقها، وتلقفتها بعض النفوس المريضة دون تثبت، ثم تفاجأ بأن البعض يتعامل معها معاملة الحقائق ومطلوب منك أن تثبت براءتك، وكأن الأصل: أن الإنسان متهم حتى تثبت براءته، وليس بريئا حتى تثبت إدانته، كما ينص الشرع والقانون.
وهي حالة أصابت كثيرا من رموز كبار وعباقرة في جماعة الإخوان وغيرهم، فنواب كانوا يصولون في البرلمان، فجأة لا تسمع لهم صوتا، لأن الحرب الضروس طالتهم بأنيابها، فأين النائب أشرف بدر الدين الذي كشف الصناديق الخاصة أيام مبارك، والنائب دكتور محمد الفقي، ونواب لا حصر لهم، خفتت صوتهم، واختفت صورتهم، في الوقت الذي يحتاجه إعلام الشرعية والثورة لبيان كوارث الاقتصاد الذي ينهار، وما يقال عن النواب يقال عن علماء، وسياسيين، فلو وقف الأمر عند انعدام الرؤية، وعدم النجاح، لكفى، لكن للأسف تسممت أجواؤنا، ومن لم يتجرع السم، فقد استنشق أثره، وكثير من الناس يفضل أن ينأى بنفسه، بدل أن يدخل في صراعات الرابح فيها خسران.
فكما تحتاج الجماعة لعاكف الذي يأخذ خطوة للخلف، فهي أحوج إلى عاكف ليجمع شتاتها، ويحقق بها انتشارا، وريادة بين الجميع، قد يكون عاكف الآن ليس فردا ينتظره الجميع، بقدر ما هو تيار، أو فكرة، أو مجموعة من المخلصين من أبناء الدعوة، يداوون جراحها، بدل أن يتسع الخرق على الراقع.
[email protected]