حين ألقي القبض على هذا الرجل، كان مصابا بطلق ناري في كتفه، استيقظ على آلام في رجله اليمنى.. كيف ذلك والطلقة في كتفه الأيسر؟
لقد كانت آلام إطفاء سيجارة ضابط أمن الدولة!
وجد نفسه في مستشفى الشرطة، أجريت له عملية أو عمليتان، وتم تجبيس منطقة الكتف كلها، لكي تلتحم عظام الكتف وعظام الذراع الأيسر، حيث إن الطلقة قد اخترقت هذه المنطقة وخرجت.. ثم بدأت حفلات
التعذيب!
كانت تحقيقات الشرطة تبدأ في المساء.. يبدأ الضابط باستهداف نقاط ضعفه، لذلك كانت لعبته المفضلة أن يفك الجبس.. وأن يبدأ بتكسير عظامه (تكسير عظامه التي لم تلتئم بعد من الطلقة)!
بعد ليال عدة، قرر مدير المستشفى (طبيب ضابط، وهو والد بطلة رياضية
مصرية معروفة، في لعبة من الألعاب الفردية)، قرر ذلك الطبيب أن يحاول حماية المريض، فقام بتجبيس كتف المتهم بجبس كثيف يتعذر فكه، وقد كان، فعجز الضباط عن فك الجبس.. ولكن هذا الرجل (المتهم) ما زالت كتفه تؤلمه إلى اليوم، بسبب الالتئام المشوه للعظم.
كان الضباط يتناوبون تعذيب المتهم طيلة الليل في المستشفى.. نعم.. في المستشفى، وليس في أي مكان آخر!!!
يحاولون استخراج كل المعلومات الممكنة من هذا الشاب، دون أي مراعاة لدستور أو قانون.
صحيح أنه متهم بقتل رئيس الجمهورية، ولكن ذلك لا يعني أن تهدر حقوقه (راجع المقالتين السابقتين عن قاتل "كينيدي" و"ريجان")، كما أن هذه التجاوزات لا تحدث مع المتهمين بقتل الرئيس فقط، بل قد تحدث مع أي (حرامي غسيل) في مصر.
هذه القصة التي حدثت منذ ما يقرب من أربعين سنة، تدلك على مفهوم الدولة في مصر، إنها دولة الأسياد والعبيد، حيث الحقوق (المطلقة) للسادة، ولا حقوق للعبيد.
ولا تظُنَّنَّ أن الدولة قد أصبحت كذلك مؤخرا تحت حكم الانقلاب الجديد فقط، لقد تعمدت أن أسوق مثالا قديما لكي أثبت أن بذرة إهدار القانون مغروسة في التكوين الجيني للدول العربية، وعلى رأسها مصر طبعا.
ما حدث لهذا المتهم أنه قد حوكم محاكمة شكلية، وحكم عليه بالسجن لمدة ربع قرن، والغريب أن المدة قد مَرَّتْ وانتهى ربع قرن من السجن، ولكنه لم يخرج، وبقي محبوسا إلى أن قامت ثورة يناير المجيدة، وبعدها فقط خرج من سجنه، برغم انتهاء فترة حبسه القانونية منذ سنوات.
***
بقي قبل أن أختم هذه المقالات أن أرد على بعض الملاحظات التي وصلتني من إخوة كرام وهي كثيرة، ولكن بإمكاني أن أجمع تلك الملاحظات في اعتراضين كبيرين.
(طبعا لست محتاجا إلى شكر كل من تفاعل مع المقالتين السابقتين، ولست محتاجا إلى أن أثمن كل الانتقادات التي وصلتني، وإن بدت لاذعة في بعض الأحيان).
***
الاعتراض الأول: كيف تصف الدول الغربية (وعلى رأسها أمريكا) بأنها دول قانون وهي دول تخالف القوانين آناء الليل وأطراف النهار؟ وتقصف الشعوب العربية والإسلامية بشتى الأسلحة، وتساعد المستبدين السفاحين في كل الأرض؟
وهو اعتراض وجيه، فجرائم الدول الكبرى فوق الحصر، وينطبق ذلك على عالمنا المعاصر، وعلى العصر الحديث، وعصر الاكتشافات والثورة الصناعية.
والحقيقة، أن ذلك لا ينفي كَوْنَ أمريكا ودول الغرب الاستعمارية تعتبر دولا منضبطة بالقانون برغم مخالفتها له.
إن القانون ليس أمرا مطلقا، بل هو معيار، مثال، يقترب منه من يقترب، ويبتعد عنه من يبتعد، تقترب منه الدول في فترات وتبتعد في أخرى.. المهم أن يبقى القانون موجودا، حتى لو ابتعد التطبيق العملي للدولة في بعض الجوانب.
أما دولنا العربية.. فقد وصلت إلى حالة "اللاقانون" بلا أدنى مبالغة، بل هي قد وصلت إلى حالة "اللادولة" بلا شك.
من هذا المنطلق، نستطيع أن نفهم ما يحدث في السجون المصرية والسورية (والتونسية سابقا).. إلخ
نستطيع أن نفهم معنى أن يدك الحاكم مواطنيه بالطائرات، فحين تعز الطائرات يخترع البراميل المتفجرة، فحين تعز البراميل، يستدعي شذاذ الآفاق من الدنيا كلها لكي يعمل القتل في العُزَّل من النساء والأطفال سنوات وسنوات.
حين نقارن
إسرائيل بهذا الذي يحدث نرى أن أنظمتنا أسوأ من إسرائيل (من ناحية الممارسات والنتائج، حتى إن وجود إسرائيل أصبح معتمدا على الأنظمة العربية)، وجيوشنا فعلت فينا بعض جرائم لم تفعلها جيوش الاحتلال (أعني القيادات لا مجموع الأفراد).
***
الاعتراض الثاني: اعتراض
التطبيع.. وأصبح الكاتب متهما بتجميل وجه إسرائيل.
والحقيقة، أنني وصفت وجه الحكام العرب.. فرأينا وجه إسرائيل -العجوز الشمطاء- أقل بشاعة!
قال النبي صلى الله عليه وسلم متحدثا عن الشيطان الرجيم: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ)!
هل معنى ذلك أن الصدق صفة لازمة لإبليس؟
لا أظن أن كاتب المقالة قال: (يا أيها العرب.. كونوا قوامين بالقسط كما إسرائيل)، بل قال: (ممارسات غالبية الحكام العرب أسوأ من إسرائيل)، على مذهب (صدقك وهو كذوب).
وفي جميع الأحوال.. ثوابتنا تزداد رسوخا، وهذه الدويلة هي أساس كل شر، وهي كيان استعماري استيطاني يجب القضاء عليه إن عاجلا أم آجلا، وفلسطين أرض عربية من البحر إلى النهر، والتطبيع جريمة، وموالاة إسرائيل خيانة.. نقول ذلك بلا مواربة، وبلا مزايدة.. نقوله بعد أن قلنا نثرا وشعرا، بلسان الحال ولسان المقال، على مدار العصور كلها.
والله يغفر لنا ولكم الزلل.
***
ملحوظة: في إطار الحديث عن دولة القانون.. إعدام المتهم المصري عادل حبارة يعدّ قتلا خارج إطار القانون، ليس لأنه بريء، فأنا لا أعلم إن كان بريئا أم مدانا، ولكني أعلم أنه لم ينل محاكمة عادلة بأي شكل من الأشكال، وأعلم أن قتله لم يكن إلا في إطار انتقام سياسي رخيص.
عبدالرحمن يوسف
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني:
[email protected]