شاركت مؤخرا في عديد الندوات التي تناولت حصاد ست سنوات من مرحلة ما بعد
الثورة التونسية وموجات الاحتجاج التي شهدها جزء من العالم العربي. وقد كان متوقعا أن تهيمن نزعة تشاؤمية على تحليلات وردود أفعال العديد ممن تداولوا الحديث في هذه الحوارات. فالمشهد الراهن بائس ولا يحيلك إلا على مشاهد الدمار وأزيز الطائرات الحربية وأصوات المدافع، بداية من
ليبيا ووصولا إلى بلاد
الشام والعراق.
لكن مع ذلك، فإن إعادة اجترار بعض ما كانت تردده من قبل أنظمة الاستبداد لتبرير وقوفها بعناد في وجه
الإصلاح الديمقراطي لا يمكن القبول به لفهم ما يحدث بالمنطقة.
يقال اليوم ومن جديد إن الديمقراطية غريبة عن الثقافة العربية، ولهذا ما إن تم الشروع في ممارستها حتى حصل الاصطدام بهذه الثقافة. وهي حجة قديمة كانت تستعملها الأنظمة للتأكيد على أن الشعوب العربية لا تزال غير ناضجة للتمتع بحقوقها السياسية.
صحيح أن بعض مكونات الثقافة العربية يمكن أن تتعارض مع الثقافة الديمقراطية، لكن ذلك لا يمكن أن يشكل عائقا جوهريا في التقدم نحو القيام بإصلاحات سياسية عميقة. والدليل على ذلك أنه عندما توفرت الفرصة التاريخية لممارسة حق الانتخاب على سبيل المثال نزلت الجماهير العربية في مصر وفي ليبيا إلى جانب تونس، وأظهرت مستوى عاليا من الانضباط والوعي.
قد يتهم البعض هذه الجماهير بعدم النضج في اختياراتها بحكم أنها اختارت الإسلاميين على سبيل المثال، لكن ذلك لا يمكن اعتباره دليلا على عدم حصول نضج ديمقراطي. إذ وفق المقياس، علينا أن نطعن في الناخبين الأمريكيين الذين انتخبوا شخصية غريبة مثل دونالد ترامب.
لا شك في أن جهودا لابد أن تبذل من أجل نقد الثقافة العربية حتى تصبح أكثر انفتاحا على مقومات الخطاب الديمقراطي، وهو أمر يجب أن يحصل بشكل موازي مع ممارسة الحق في الاختيار والمحاسبة والمشاركة في السلطة وفي صنع السياسات.
أمر آخر أصبح يقال هنا وهناك عند تقييم أسباب تعثر أو فشل بعض محاولات الانتقال الديمقراطي في المنطقة. وهذه الحجة هي امتداد للحجة السابقة، إذ يقال إن الحصول على أغلبية في الأصوات لا يعني أن هذه الأغلبية تملك الصواب. وهي فكرة ليست خاطئة في المطلق، لأن الحصول على أغلبية الأصوات لا يعني بالضرورة أن المنتصر هو أكثر وعيا ممن حصل على أصوات أقل. فالمسألة المطروحة في كل السياقات والتجارب الانتخابية لا علاقة لها بمن يملك الحقيقة بقدر ما يتعلق الرهان بمن يكون أقدر على كسب ثقة الناخبين وإقناعهم.
وقد يستعمل المرشحون، سواء أكانوا أفرادا أم أحزابا، أسلوب المناورة والخدعة والإيهام، لكن الكلمة الأخيرة يجب أن تبقى للناخبين. وإذ تعتبر هذه إحدى نقائص الديمقراطية العددية، إلا أنها ليست كافية لإلغاء آلية الرجوع إلى الشعب لاختيار ممثليه. وإذا ما سلمنا بما يقال، فمتى ستعطى الفرصة للشعوب العربية حتى تتعلم الدرس، وتكتسب الخبرة والوعي في مجال اختيار المرشح الأفضل والأقدر. أليست التجربة هي المحك الأساسي لبناء وعي انتخابي سليم وفعال؟
وقد تعلمت النخبة السياسية التونسية من هذا الدرس، فقامت بالتدارك عن طريق اعتماد نظام الاقتراع النسبي الذي يحول دون تغول طرف ما على بقية المنافسين، إلى جانب تبني المنهج التوافقي.
ثالثا، عاد بعض المثقفين ليقايضوا النخب والشعوب بالحديث عن أيهما أفضل: تحقيق التنمية أم التمتع بالديمقراطية؟ وبطبيعة الحال تتخذ الصين كمثال قوي على ذلك. وبقطع النظر عن الفوارق الكبرى بين التجربتين العربية والصينية، فإن السؤال البديهي الذي يطرح في هذا السياق: هل أن الحكام العرب الذين تمت الإطاحة بهم خلال الثورات أو حركات الاحتجاج قد حققوا قدرا من التنمية المزعومة عندما كانوا يمسكون برقاب الشعوب ويتصرفون كآلهة لا يرد لها أمر؟ ألم تؤد سياساتهم إلى حالات جماعية من الاحتقان والفساد والغلاء وتعميق درجات التطاحن الاجتماعي؟ ولولا سوء إدارتهم للملف الاقتصادي والاجتماعي لما ثار الناس ضدهم، وطالبوهم بالرحيل.
من جهة أخرى، كيف يمكن فصل التنمية عن الديمقراطية؟ وحتى تتضح الصورة، كيف يمكن أن تكون الاختيارات الكبرى نابعة من الشعوب ومستجيبة لاحتياجاتها الحقيقية؟ أليست حرية الصحافة وسيلة ضرورية لتحقيق ذلك؟ وهل أن البرلمانات المعينة والمزيفة هي الأفضل للدفاع عن تنمية وطنية ومستقلة؟
أخيرا، هناك البعض ممن يقللون من أهمية ما تحقق في تونس، ويعتبرون أن هذه التجربة ديمقراطيتها منقوصة، بحجة الآلاف من الدواعش الذين أنتجتهم وصدرتهم إلى ليبيا والشام، إلى جانب التراجع الاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ الثورة على الآن.
لم يقل أحد من التونسيين أن ديمقراطيتهم قد اكتملت ونضجت. فالتجربة لا تزال في بدايتها، وهي في حاجة إلى الترشيد والتصحيح والتقييم والمراقبة. لكن لا يمكن إنكار أن تونس تعتبر من بين الديمقراطيات الناشئة والواعدة، وأن البلد قد شهد تحولات سياسية غير مسبوقة في أي بلد عربي آخر. ولا يعني ذلك أن تونس أصبحت خالية من التجاوزات والانتهاكات والإضرابات والإخفاقات.
ولكن فرق كبير بين الإقرار بأن تجارب الانتقال الديمقراطي تكون عرضة لتحديات خطيرة قد تؤدي أحيانا إلى إجهاضها، وبين استثمار ما تواجهه من صعوبات للتقليل من أهمية ما حققته، ولتبرير إخفاق الآخرين وتراجعهم إلى المقاعد الخلفية..