كشفت سلسلة استقصائية جديدة ما اعتبرته "شواهد جديدة" على مساهمة النظام الرئيس السوري بشار
الأسد في صعود
تنظيم الدولة، منذ ظهوره في العراق عام 2003.
ففي سلسلة استقصائية من ثلاثة أجزاء، اكتشف الصحفي الأمريكي المخضرم روي جتمان، والحائز على جائزة "بولتيزر" للصحافة، واحدة من أكبر الجوائز في الصحافة، أدلة جديدة على ارتباط النظام السوري بتنظيم الدولة، على مدى عامين من الاستقصاء.
ومنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، ادعى النظام السوري أن الإرهابيين هم الذين أطلقوها، واستخدم جهازه الأمني لجعل الواقع يوافق هذه الدعاية، وليظهر كـ"ضحية للإرهاب"، بناء على مقابلات مع منشقين أمنيين عاليي المستوى من النظام السوري.
اكتشافات مثيرة
وتلقي السلسلة، التي بدأ نشرها على موقع "ديلي بيست"، الخميس، الضوء على قرارات أساسية للنظام السوري، مثل إرسال المتطوعين للقتال ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي ساعد بتشكيل تنظيم الدولة، وإطلاق سراح أكثر من 1000 عنصر سابق من تنظيم القاعدة، وعدم قتال تنظيم الدولة.
ومن أهم ما تكشفه السلسلة كذلك أن النظام قام بـ"تمثيل" تفجيرات لمنشآت أمنية له في عام 2011، و2012، لإعطاء الانطباع بأن القاعدة لها وجود مسلح في
سوريا، قبل أن تكون كذلك، بالإضافة إلى إعطاء أوامر للقوات الأمنية لعدم التدخل عندما عبر مقاتلو القاعدة من العراق إلى سوريا في عام 2012.
كما أظهر الاستقصاء اختراق القوات الأمنية السورية للقيادة العليا للتنظيمات الإرهابية، وإمكانية التأثير عليها في لحظات محددة.
ومما يثير الاستغراب، بحسب التقرير، أن الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية لم تلق بالا للمنشقين الأمنيين عن النظام السوري، رغم دور الأسد بتنظيم "التمرد الإرهابي" ضد القوات الأمريكية في العراق.
منذ عام 2003
وترجع علاقات الأسد مع مسلحي التنظيمات الجهادية إلى دوره المحوري في التمرد العراقي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003.
وتظهر وثائق سنجار التي عثر عليها في عام 2007، وتحمل تفاصيل خاصة عن عناصر تنظيم الدولة، أن أكثر من 600 مقاتل من السعودية وليبيا وبلدان إسلامية أخرى عبروا إلى العراق عن طريق سوريا، ما بين آب/ أغسطس 2006، وآب/ أغسطس 2007، وسط تأكيد من "مركز مكافحة الإرهاب" في أكاديمية ويست بوينت العسكرية، عن سعي النظام لاختراق هذه الشبكات.
وأكدت وثائق مسربة من "ويكيليكس" من وزارة الداخلية الأمريكية، امتلاك الولايات المتحدة لمعلومات استخباراتية تؤكد دخول كل المقاتلين الأجانب مع تنظيم القاعدة إلى العراق عبر سوريا، ومعرفة نظام الأسد كل مساعديه.
وفي عام 2010، اعترفوا بذلك لمسؤولين أمريكيين كانوا يزورون سوريا، بحسب "ويكيليكس"، حيث قال العميد علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني السوري: "نحن، في النظام السوري، لا نقتل أو نهاجم عناصر القاعدة مباشرة، ولكننا نستدخل أنفسنا بهم، ونتحرك في اللحظة المناسبة"، عارضا المساعدة باعتقال الإرهابيين مقابل رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا.
نصف الحكاية
إلا أن هذا يظهر نصف الحكاية فقط، بحسب تعبير جتمان، بينما نقل مسؤولون استخباراتيون سوريون منشقون، ومقاتلون سابقون في تنظيم القاعدة، عن تشجيع النظام السوري للتطوع ضمن صفوف "الجهاد" ضد أمريكا، وهو ما فعله الآلاف.
وقال أنس الرجب، المقاتل السوري السابق في العراق والذي اعتقل عند عودته إلى سوريا لفترات متفاوتة في سجون المخابرات السورية، إن "سوريا أرادت أن تطيل حرب العراق والهجمات على القوات الأمريكية، لكي لا يتمكن الأمريكيون من القدوم إلى سوريا".
ولادة الوحش
بدوره، قال محمود الناصر، المسؤول الاستخباراتي المنشق، إن المخابرات تقدر أن 20 ألف عنصر عبروا إلى العراق عندما بدأت الولايات المتحدة هجماتها في آذار/ مارس 2003، لكن معظمهم عاد مباشرة بعد سقوط بغداد بثلاثة أسابيع.
وقال الناصر، رئيس المخابرات السياسية في مدينة رأس العين شمال سوريا، إن "5 آلاف آخرين عبروا لأسباب أيديولوجية، وهم الذين تسببوا بولادة الوحش"، تنظيم الدولة، الذي يسيطر على مساحات كبيرة في سوريا والعراق، مؤكدا "فتح كل الأبواب للجهاديين ليذهبوا إلى العراق".
ويعمل الناصر الآن مع "محامي سوريا الأحرار"، جنوب تركيا، بجمع بيانات حول جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري، بحسب "الديلي بيست".
بدوره، أكد مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، في مقابلة لـ"الديلي بيست" في قاعدة السهيل العسكرية، أن "الحكومة السورية ارتكبت خطأ كبيرا في عام 2003"، مشيرا إلى أنهم "فتحوا الباب للإرهابيين ليضغطوا على القوات الأمريكية في العراق، بحيث لا يفكرون بالحرب ضد سوريا".
وحمل برزاني النظام السوري "مسؤولية كبيرة" عما جرى في العراق، معتبرا أن نتائج ذلك هي "ولادة القاعدة في العراق ثم داعش ثم المتطرفين الذين انتشروا في سوريا".
أبو القعقاع
ومر كثير من المتطوعين للقتال في سوريا بتدريب وتوجيه، تحت إشراف المخابرات السورية، قبل مغادرتهم إلى العراق، وكان أبرز شخصيات الحشد والتوجيه هو محمود الأغاسي، المعروف باسم أبي القعقاع، الذي كان يحشد من مسجد "التوابين" في حلب.
وقال بسام بارباندي، الدبلوماسي السوري السابق الذي يعيش الآن في واشنطن، إن أبا القعقاع "كان ينظم مظاهرات من مسجده إلى منتصف المدينة، بهتافات: سنذبح الأمريكيين، كما كان يضمن أن المقاتلين الأجانب لن يكون لديهم مشاكل إذا جاؤوا".
وأكد بارباندي أن أبا القعقاع كان تحت "رعاية من كبار المسؤولين"، مشيرا إلى أنه "من المستحيل أن يعمل في دولة بوليسية مثل سوريا بدون موافقة عالية المستوى".
وجندت المخابرات السورية أئمة، كعملاء لها أثناء دراستهم للشريعة في الكليات، حيث قال الناصر إننا "عينا بعض هؤلاء الأئمة كمخابرات سورية، وكان أبو القعقاع واحدا من عدة".
قوافل بشار الأسد
ويروي رائد علاوي، أحد المجندين السوريين من مدينة حماة السورية، والذين ذهبوا ليحضروا لأبي القعقاع، أن بعض المدربين كانوا من مخابرات الأسد، وبعضهم رافق هؤلاء المجندين إلى الحدود العراقية بما أسماه المجندون: "قوافل بشار الأسد".
وقال الضابط السابق في شرطة الأسد عواد العلي إن الحكومة الأمريكية كانت على اطلاع طيلة هذه العملية، حيث كان أبو القعقاع، الذي تم اغتياله في عام 2007 ربما على يد المخابرات الأمريكية، قدم للمخابرات قوائم بأسماء المتدربين.
وأكد الناصر أن المخابرات السورية "بقيت على اطلاع" بمن غادر، استعدادا لعودتهم، حيث كان قسم المخابرات الدينية في إدارة المخابرات العامة، أحد هذه الأجهزة التي تتجسس.
ولم يرجع ربع الذين ذهبوا، إما بانضمامهم للقاعدة، أو موتهم في معارك، بحسب الناصر، بينما اعتقل 1500 من الذين عادوا بتهم مرتبطة بالإرهاب.
صيدنايا
ويعتبر سجن "صيدنايا" أسوأ هذه السجون السياسية سمعة في سوريا، حيث يروي دياب سرية، الناشط المدني الذي قضى خمس سنوات في صيدنايا، وأطلق سراحه في 2011، أن عدد "الأصوليين الإسلاميين" الذين اعتقلوا معه ارتفع من 300 عندما وصل في عام 2006، إلى 900 عندما أطلق سراحه، وكانوا جميعا محكومين ما بين خمسة إلى 15 عاما، بتهم مرتبطة بالإرهاب.
ويرى جتمان في استقصائه أن "صيدنايا لم يكن مركزا للتأهيل، ولكن حاضنة للجهادية، بحسب مسؤولين سابقين ومنشقين عن الاستخبارات"، بينما اعتبره بعض المعتقلين السابقين سجن خمس نجوم.
وبحسب مسؤولين استخباراتيين وسجناء سابقين، فإن المعتقلين كانوا يصنفون بحسب الأيديولوجيا، حيث كان هناك مهجعان محجوزان لأشد الإسلاميين تطرفا، والذين أصبح عدد منهم لاحقا في مواقع قيادية في تنظيم الدولة، واثنان للأقل تطرفا، بينهم الآن العديد في جبهة فتح الشام، وثلاثة للإسلاميين الأكثر اعتدالا، بينهم الآن قيادات بارزة في حركة أحرار الشام الإسلامية.
وبقي هناك ثلاثة مهاجع لإسلاميين معتدلين و"ديمقراطيين" مثل سرية، الذي قال إن الأصوليين الإسلاميين تنظموا مثل "الخلافة"، حيث كانت المجموعات تؤدي لهم البيعة كأمراء، كما هو حال التنظيمات في الخارج
وكانوا يكتبون شعارات على الجدران، ويضعون أهدافا عند خروجهم، بحسب سرية، الذي أكد "أن بعضهم كان موهوما بأنه حال خروجه سيتوجه إلى دمشق ويؤسس الخلافة هناك".
وعندما بدأت الثورة في منتصف آذار/ مارس 2011، بدأ الأسد بإطلاق سراح هؤلاء تباعا من صيدنايا، قائلا إن هذا كان استجابة لمطالب الناشطين بإطلاق سراح السجناء السياسيين، بينما وصف الناصر ما جرى من "إرسال متطرفي القاعدة من بلد يعاني الفوضى كان مخططا ساخرا لاستخدام المتطرفين لتحقيق أهداف سياسية".
وأوضح: "السبب الذي أطلق الأسد لأجله سراح هؤلاء مع بداية الثورة كان إتمام عسكرة الثورة، ولتحفيز النشاطات الجنائية بحيث تصبح الثورة قضية جنائية، لإعطاء الانطباع أن النظام يقاتل الإرهابيين".
اختراق وإدارة
وشكلت المخابرات السورية علاقات داخل السجن مع المتطرفين، سامحة لهم بتعقب صعودهم داخل الحراك الثورية، بحسب سرية والعلي ومسؤولين استخباراتيين سابقين، إذ أكد سرية أن "كل تنظيم متطرف مخترق من النظام".
ولم يقف الحد عند اختراق الشبكات، بل أدارها كذلك عبر "تصميم هياكلها"، حيث قال علي مملوك لمسؤولين أمريكيين في عام 2010، إن النظام إجرائيا "سيستدخل نفسه" ضمن المتطرفين الإسلاميين لإدارتهم لاحقا.
ويروي نبيل دندل، المدير السابق للمخابرات السياسية في اللاذقية، أنه قاد عمليات أمنية ضد خلايا للقاعدة، ليعرف لاحقا أن مدير هذه الخلية تابع ومدعوم من المخابرات السورية.
وأكد دندل أن النظام السوري "كان يعدهم ليصبحوا زعماء"، مستشهدا بحالة نديم بلوش، زعيم خلية للقاعدة، اعتقل في عام 2006، وقال له: "لا تفعل شيئا، أنا أعمل لصالح آصف شوكت"، صهر الأسد الذي عمل نائبا لوزير الدفاع السوري، والذي اعتقل في تركيا قبل عام، وقيل إنه انتحر في السجن.
وقدر قاض سابق للنظام، انضم للثورة، أن نصف القياديين في تنظيم الدولة يعملون مع النظام، بينما قال منشق آخر إن الثلث يعمل كذلك، أما الناصر فرأى أن كبار القياديين في تنظيم الدولة مرتبطون بالمخابرات السورية.
ويروي الناشط المدني عبد الله الحكواتي أن "المتطرفين في سجن حلب المركزي لهم علاقة ممتازة جدا مع الحراس، بعكس السجناء المدنيين الذين لا يملكون أي امتيازات".
وكان هناك ستة سجناء من صيدنايا، وآخرون من سجن تدمر الكبير، وفرع فلسطين، والفرع "291"، ليصل عددهم إلى 15 سجينا من القاعدة، مع 15 سجينا مدنيا مثل حكواتي.
وكان لسجناء القاعدة امتيازات، بحسب ما يستذكر الحكواتي، منها إمكانية امتلاكهم للهواتف، والوصول للإنترنت، وإطلاق لحيتهم، ولباسهم الأفغاني، وطلب وجبات من الخارج، وكان لديهم دروس دينية، يدعون بها بسلامة زعماء القاعدة، حيث يذكر أنه "سمع خطبة كاملة لبن لادن" في السجن.
"مديرو السجن"
وإذا كان هناك اعتداء من السلطات على أحد الناشطين المدنيين، فقد كانت عناصر القاعدة يتدخلون لحمايته، حيث وصفهم حكواتي بأنهم "مديرو السجن، الذي كان نعيما لهم"، وبعد أسابيع من هذه الحالة، انضم خمسة من زملائه إليهم.
ويستذكر الحكواتي الفرق بين الحالتين، حيث قال أحدهم واسمه محمود مانيجاني لعميد السجن: "عندما أخرج سأقتلك"، فقال له: "هذا شيء تقرره فقط"، بينما عندما كان هناك اعتراض من الناشطين المدنيين على أن الطعام غير كافٍ، كانوا يهددونه: "هل تريدني أن ألعب بخصيتيك؟".
وكان للعلاقة بين الناشطين والمتطرفين أن تكون عدائية، حيث يذكر أنه بعد نقاش فلسفي جرى بين مانيجاني وبينه حول معنى "الإله"، ضربه الإسلامي، بينما، في موقف آخر، شكره عنصر آخر قائلا له: "بفضل مظاهراتكم فقط نحن مرتاحون اليوم".
مواقع قيادية
وتصدر سجناء صيدنايا السابقون مواقع قيادية في الفصائل والكتائب التي وصفت بالإسلامية.
فمن بينهم، كان أبو لقمان، أحد مؤسسي
جبهة النصرة في سوريا، والذي يعمل الآن كأمير الرقة في تنظيم الدولة، والمسؤول الأمني في التنظيم محمود الخليف، ومسؤول العلاقات حاج فاضل الآغال، بحسب التقرير.
وكان أبو عبد الرحمن الحموي، أمير النصرة في حماة، وأبو ناصر دروشة، ابن عم أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا)، وأبو حسين زينية، مسؤول النصرة في القلمون، وأبو حفص الكسواني، مسؤول التنظيم في درعا.
وكان من بين خريجي صيدنايا، أبو جابر الشيخ، الذي ترأس الجبهة الإسلامية السورية، التي ضمت الفصائل الإسلامية البعيدة عن القاعدة، ومن بينها جيش الإسلام، الذي ترأسه زهران علوش، قبل أن يقتل في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، والذي كان في صيدنايا كذلك، بجانب أحمد عيسى الشيخ، أمير "صقور الشام"، وحسان عبود، مؤسس "أحرار الشام"، الذي قتل مع كبار قادة التنظيم في تفجير غامض في أيلول/ سبتمبر 2014.
ورأى العلي أن وجود هذه القيادات في صيدنايا كان مثل "التخرج بشهادة الشرف"، موضحا بقوله إن الناس سيقولون إن "هذا الشخص دفع ثمنا غاليا في صيدنايا"، ثم يصفونه بالشيخ.
الرابح الأكبر
ورأى جتمان، في ختام الجزء الأول من تحقيقه، أن المستفيد الأكبر هي المخابرات السورية، التي كانت على معرفة كافية بالسجناء السابقين، وحفظها ملفا لكل واحد منهم.
ورأى الناشطون المدنيون أن هذا كان من خطة النظام لإفساد الثورة.
ورأى دياب سرية أن النظام نجح في ذلك: "فقد كان ناجحا جدا في تشويه الثورة، ليظهر المعركة كأنها بين النظام العلماني والتنظيمات الإسلامية المتطرفة".