إشكاليات غياب الجماعة..!

المُتعمق المُدقق في حقيقة الحياة؛ يدرك أن سنين العمر ما هي إلا حبات مسبحة تمر مسرعة من بين يديّ صاحبها، هذا إن أحسن استثمارها، أما إن أساء فما هي إلا قطرات سائل رجراج مراوغ، إن أحسن في بداية المسيرة إطباقا عليها اكتشف في النهاية أنه إنما أطبق على الفراغ ليس إلا. فما وجود امرئ على قيد الحياة بشاهد له أنه حيٌّ إن لم يشهد له حُسن الإنجاز، وجودة التفكير، بخاصة بما يهدي الحيارى من الشرفاء المُخلصين في ليل "العمى" الذي يلف العالم اليوم، إلا ما رحم ربي.

معان تعمل في النفس آناء الليل وأطراف النهار، وهي تردد مع أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب"، رضي الله عنه، "اللهم إني أشكو إليك عجز المؤمن وجلد الفاجر"، فأولئك الذين لا يحملون إلا الشر والفُجور والتراجع الحضاري للبشرية يتفوقون ويتقدمون، فيما دعاة النور والخير والحق يتراجعون، بخاصة في مصر التي تعاني الأمة كلها من امتداد أزمتها لسنوات ثلاث، وليست الأزمة فيما مضى من عمر الأزمة بل فيما هو مقبل، إن استمرت قيادات أودت بصف ضم ملايين الشرفاء إلى هذا المصير، في الإصرار على رأيها، وعلى أنها منصورة من قبل رب العزة تعالى، وإن لم تكن تملك لا خطة، أو مجرد إرهاصات رؤية، فضلا عن استراتيجية، وقدرة على التكتيك.

آثر صاحب هذه الكلمات التأخر عن تناول الحديث الأخير الذي أجراه الدكتور "إبراهيم منير"، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان، مع موقع "عربي21"، وكان من موجبات التأخر أمل في أن يكون الفهم المُلتبس لكلمات الرجل له معنى خاف، ثم متابعة ردود الفعل أملا في العثور على مفتاح لفك "المعنى الرئيسي" للكلمات، وهو ما راح الدكتور منير يُوضحه في حوارات مع قنوات في تركيا، من أنه لم يقصد إلا أنه ليست هناك "مفاوضات" ولا "صلح" مع العسكر في مصر.

ومع أن صاحب هذه الكلمات له رأي عبّر عنه من قبل في اللحظة الراهنة، وسبل تجاوزها، إلا أن كلمات من مثل "صلح، تسوية، هدنة" كان لا بد من التوقف عندها، فيما أعتقد، من جانب الدكتور منير قبل الحوار الذي افتتحه بدعوة العقلاء في مصر والعالم بمحاولة البحث عن حل للأزمة المصرية، ثم استدراكه بإجابات عن أسئلة توضيحية ملحقة بالحوار، ثم تلفزيونية عبر قنوات أخرى، وفي الجميع قال الرجل إنه لم يكن يقصد الصلح بحال من الأحوال.

الأمر، إذاً له قراءتان: ظاهرية وضمنية، شكلية ومضمونية. أما الأولى فإن افتتاح الدكتور منير للحوار بدعوة أصحاب العقل في مصر والعالم لمناقشة أزمة مصر إنما هو من باب عدم القدرة على إحسان التعبير عما في النفس، والإبانة عنها جيداً، وهي إشكالية تعودناها من قادة الإخوان مع الإعلام حتى في أوقات السلم النسبي، لا أوقات المحن، وسبق الدكتور منير إليها على سبيل المثال الدكتور مأمون الهضيبي، رحمه الله، والدكتور مهدي عاكف، حفظه الله، والأخيران صدرت لهما توصيتان من داخل الصف بعدم الحديث مع الإعلام لعدم إحسانهما الأمر، والوقائع المدللة معروفة لا داعي لتذكرها، ويكفي لفظ "طز في مصر" الذي قاله الأخير، ربما عفو الخاطر، وأقام إعلاميو مصر وعلمانيوها وسياسيوها، من الواقفين على الطرف الآخر، الدنيا ولم يقعدوها عقبه، ثم لدينا شاهد من أحد الأحياء المقيمين خارج مصر الذين خرجوا في أسبوع واحد من العام الماضي (تموز/ يوليو بالتحديد) بحديثين مع جريدة قطرية، ومحطة تلفزيونية، ليقول فيهما ما حاول نفيه فيما بعد، وكانت مداخلته في التلفزيون على الهواء، وبرر فيها بعد أن أثبت على الإخوان نسف محطات الكُهرباء في مصر بأن الشعب الذي يرضى الاغتصاب لـ"بناتنا" لا يستحق الحياة في النور، وهو الذي تم تقديمه كقيادي في الإخوان ليثبت عليهم ما لم يثبته أحد من قبل ثم فشل في تكذيب ما قال.

تعزز الوقائع الماضية أن الكلمات خرجت ملتبسة عن الدكتور منير تثبت ما لم يرده، بخاصة بعد أن مضى قطار العمر به حتى الثمانين، أمد الله في عمر الجميع في الخير، ولكن بقاء قيادات في قلب أزمة كهذه أغلبهم ممن تجاوزوا الستين، إن لم يكن أكثر، ينبغي الوقوف أمامه مليّاً، وهل ما يخلفه العمر مع الانغماس في المحن من ثوابت تصلح لحلحة مواقف بالغة الدقة والتأثير في حياة الوطن والأمة؟

أما ما يخص المضمون فإنه ليشهد بأن الرجل أطلق بالونة اختبار للصف تقول: ما موقفكم إن أقررنا مصالحة مع العسكر؟ ثم استدرك لما خاف من التبعة، وهو مضمون تشهد به كلمات أمين لجنة العلاقات الخارجية لحزب الحرية والعدالة محمد سودان، في أيار/ مايو الماضي، من أن الثورة كانت مؤامرة من الجيش للتخلص من مبارك والاستيلاء على الحكم بدلاً منه، ومحاولات أحد أبرز قيادات تركيا تسريب ما مؤداه أن الإخوان ليسوا دولة كي يحاربوا دولة ترفع السلاح في مصر، مع ما تسرب من قيادات في دولة خليجية (الكويت) من توزيعها منشوراً على الصف يفيد بأن الجماعة ستعود إلى مواقعها التربوية بعيداً عن السياسة.

يتصور صاحب هذه الكلمات أن تصريحات الدكتور "أحمد الريسوني، نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الاثنين الماضي، في موقع "عربي 21" أيضاً، والذي أوضح فيه موقفه من تولي الرئيس محمد مرسي للرئاسة في مصر، قررت ما في نفس آلاف العقلاء اليوم من أن الأخير تم إقحامه في الأمر، بوضوح شديد، وأذكر أن أحد الثقات قال لي أن الدكتور محمد بديع لما قال للرئيس مرسي: قدم أوراقك احتياطياً مع المهندس خيرت الشاطر، ولم يكن الأخير قد مُنعَ من الترشح بعد ..قال الرئيس مرسي: "هي ناقصه بهدله يا دكتور بديع؟!"، في إشارة لما لاقاه في حياته من قبل مقابل الاشتغال في السياسة، ولما يتوقعه من بعد ترشحه للرئاسة، وهي جملة مشهورة بين العالمين ببواطن الأمور من شرفاء مصر. كما أذكر أن أحد أعضاء المكاتب السياسية للجماعة لقي صاحب الكلمات على إفطار في العشر الأواخر من رمضان من عامين في الغربة، فلما لمح كلمات تخص المراجعة قال بحسرة:

ـ لقد كنتُ مع أن نبقى رقم 2 في مصر، إن صارت الأمور كما ينبغي بقينا كما نحن، وإن تدهورت هبطنا إلى رقم 3 (في إشارة إلى تولي رئاسة الوزراء دون رئاسة الجمهورية)، فإن أمور "الحكم" مفسدة وأي مفسدة، وقد تقاتل الصحابة عليها.. لكن أحداً لم يستمع إليّ!

إن الجماعة التي تعجلت التصدي لرئاسة الجمهورية في مصر عرضتْ إمكاناتها وقدراتها للخطر الشديد، وهي تعرف أنها غير مؤهلة للأمر، لا تعرف اليوم كيفية الانسحاب من تبعات الأمر، بعدما صرحت للصف عقب الانقلاب بأنها عائدة إلى الحكم، لتزج بعشرات الآلاف منهم، من جديد، في آتون المحنة من قتل وإصابة واعتقال ومطاردة، لتقف اليوم في عرض الطريق بعد فناء جزء كبير من مقدراتها.

وإن قيادات للجماعة لتؤخر فرجاً للأمة بتعقيد الموقف في مصر بإصرارها على موقفها، أو تمسكها بمُلتبس القول، دون قدرة على الإبانة أو الإفصاح عما في نفوسها، فيما الدماء ما تزال تسيل بفعل إجرام العسكر، وتخاذل القيادات عن اتخاذ موقف شجاع يحفظ على الشرفاء دماءهم وأعراضهم، على أمل أن يثمر "الوهم" حلاً.. 

إن هذه الجماعة وقيادتها لمطالبة بشدة، اليوم قبل الغد، واللحظة قبل الساعة القادمة، بالإعذار إلى الله والجلوس مع بعضها بعضاً وصولاً إلى حل ناجح، وإن التهاون في هذا بل الفشل فيه أمر بالغ الخطورة سيسأل عنه هؤلاء أمام الله.

ليتهم لا يدفعون النفوس إلى التردي في مزيد من اليأس من القدرة على إيجاد حل، ويحفظون على هذا الصف ما تبقى من إمكانات، وما يمكن يستخدم استثماره فيما بعد في نافع الإصلاح لمصر ومن ثم الأمة من تربوي المواقف ومعركة الوعي..بدلاً من الزج بهم في معارك لا ثمرة ولا طائل من روائها إلا الفشل المُطلق، والغياب عن إحسان عمارة الأرض.

إن الكلمات الأخيرة لتصدر عن نفس لم تكن تحب أن تشهد هذه المواقف وتأمل في غد قريب مشرق يستبدلها، فلعل وعسى وما ذلك على الله بعزيز أو بعيد..!