كثر الكلام في الآونة الأخيرة، من بعض الجهات المناهضة للانقلاب، عن أهمية حلحلة الوضع الراهن في
مصر، وذلك بطرح أفكار تحمل في طياتها تقبلا ضمنيا لتسوية سياسية مع بعض أطراف الدولة العميقة.
وقد يرى أصحاب هذا الطرح أن هذا هو الطريق الوحيد للخروج من حالة الجمود السياسي في مصر الآن، ومنفذ لفتح الباب للمجتمع المصري ككل لكي يتعدى مرحلة الانقلاب، ثم يستعيد طريقه إلى الإصلاح السياسي، وذلك حسب قناعتهم. ويسوّق هؤلاء لهذا الطرح باعتبار أنه الوسيلة الوحيدة لإنقاذ المعتقلين السياسيين ورفع المعاناة عنهم وعن ذويهم.
ومن منا لا يريد أن يتخطى الانقلاب وإيقافه عن انتهاج سياسات تقوض أساس مصر كدولة ومجتمع ووطن؟ ومن منا لا يريد أن يتم الإفراج عن أبطال يعانون من التعذيب والإرهاب ما لا يطيقه أحد؟ لكن المشكلة في هذا الطرح هو أنه يعاني من السذاجة السياسية، ولن يؤدي إلى الغاية المنشودة التي يروج لها البعض.
وكما أوضحت في مقال سابق، فإنه في حال تطبيق هذه الأفكار المطروحة من هؤلاء يكون هناك تصوران للمسار السياسي لهذه الطروحات:
أولا: إما أن الانقلابين يَرَوْن أنفسهم أنهم الأقوى، وفي هذه الحالة لن يتنازلوا أو يتفاوضوا إلا إذا كان التفاوض مبنيا على اعتراف ضمني بالهزيمة من جهة مناهضي الانقلاب، وفي هذه الحالة فإن المساومة السياسية ليست إلا تفاوضا على شروط الاستسلام.
ثانيا: وإما أن الانقلابيين يودون الحفاظ على سلطتهم وامتيازاتهم، لكنهم متخوفون من أن السيسي يهددها بسياساته الحمقاء، وفي هذه الحالة فإن المساومة السياسية هي وسيلتهم لاستعمال بعض قوى المناهضة للانقلاب لشرعنة انقلاب على انقلاب، يكون الهدف منه إعطاء تلك المنظومة الفاسدة قبلة الحياة مقابل فك أسر المعتقلين مع تغييرات سطحية في الهيكلة السياسية، الأمر الذي قد يعطي انطباعا بإعادة بعض الحريات والحقوق، لكنها في حقيقة الأمر تحافظ على استمرار تمكين منظومة الدولة العميقة من مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية، وفي هذه الحالة يبقى الشعب المصري مسلوب الإرادة و"عبدا للبيادة" مهما كانت الشكليات.
ويتضح هذا التصور الثاني في ما قيل مؤخرا عن المؤسسة العسكرية ومحاولة فصلها كمؤسسة عن أفراد منها أو من المخابرات الحربية؛ "اختطفوا" المؤسسة، حسب قولهم أو ادعائهم، لتفعيل الانقلاب.
وفي هذا رسالة واضحة إلى المؤسسة العسكرية، والتي هي عماد الدولة العميقة، وهي "أن الصراع ليس صراعا بين الشعب ومؤسسات الدولة العميقة، وإنما هو صراع بين قطاع من الشعب، غيور على المصلحة الوطنية، وأفراد معدودين من الضباط مسؤولين بشخصهم عن الانقلاب"، وهم بذلك يجردون الانقلاب من أي بعد ايديولوجي.
ونرى أن سعيهم نحو هذا الهدف هو تبليغ هذه الرسالة عن طريق "إعادة تفسير الأحداث التاريخية بشكل يدعم هذا السرد ويجرد الصدام السياسي من أي صدام أيديولوجي".
ونرى مثلا أنهم يشيرون إلى أن الرئيس المنتخب د. مرسي طالب بالدفاع عن الجيش، متناسين أن الرئيس قال هذا في خضم فترة الإعداد للانقلاب كمحاولة منه أن يفرق صف الجيش، وأن يجذب أطرافا من طبقة الضباط إلى صف الشعب لمنع الانقلاب. والأهم من ذلك، أن الرئيس صرح بهذا قبل أن يعتدي الجيش بجبروته، وبالسلاح الذي هو ملك الشعب، على الشعب الأعزل وقتله لآلاف من الأبرياء في أبشع مجازر في مصر في العهد الحديث.
ويطرح هؤلاء أفكارهم متناسين أنهم كانوا أحد الأيادي الخفية التي ساعدت على الوصول إلى مهزلة 30 حزيران/ يونيو بالتخلي عن الرئيس المنتخب د. محمد مرسي في أحلك الظروف، أو بتأييد بعضهم غير المباشر لمسرحية العسكر أو آخرين بالمشاركة الفعلية في الانقلاب.
ومن الواضح لكل من شاهد الأحداث؛ أن الجيش كمؤسسة شارك في تمكين وفرض الانقلاب وانتفع منه، والجيش هو الذي قمع الشعب، وشارك في القتل والحرق، ومكّن قوات الأمن من اعتقال المناهضين وتعذيبهم واغتصاب نسائهم.
والمثل الموازي هنا هو كيف حُمِّل الجيش الألماني كمؤسسة المسؤولية عن مساعدته على تمكين الحزب النازي من اغتصاب السلطة، وعلى انتهاكاته أثناء حملاته في الحرب العالمية الثانية، بعد محاكمات نيورنبرج التي كرست في القانون الدولي مبدأ أن "الامتثال للأوامر العسكرية في ارتكاب الانتهاكات أو التغاضي عن انتهاكات يرتكبها آخرون في ذات المنظومة لا ترفع مسؤولية المشاركة في الجريمة حين تكون الجريمة جريمة ضد الإنسانية". ومما لا شك فيه أن ما رأيناه في مصر جرائم ضد الإنسانية تخضع تماما لهذا المبدأ في القانون الدولي.
إذاً لماذا نؤكد على أن هذا الطرح (محاولة تفرقة العدو والمساومة مع بعض أفراده للوصول إلى تسوية ترفع الضغوط عن الثوار في الداخل، وربما تفتح الباب لبعض الإصلاح مقابل إمداد منظومة الدولة العميقة في السلطة حتى ولو من وراء الستار لفترة) هو طرح لن يؤدي إلى الغاية المنشودة؟ والإجابة بوضوح أنه لا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المؤسسة العسكرية والتي يحتم هيكل تفاعلها كمؤسسة مع أي محاولة لإضعافها، بغض النظر عما قد يقوله أفراد منها لأطراف في معسكر المناهضين للانقلاب لتشجيعهم على شرعنة حل لا يكون إلا انقلابا على انقلاب.
فإذا نظرنا نظرة موضوعية للجيش المصري اليوم؛ نرى أنه أصبح في حقيقته مؤسسة اقتصادية، وليست عسكرية، لكنها مؤسسة تستعمل الآلة العسكرية للتحكم في أكثر من 30- 40 في المئة من الاقتصاد المصري، لتنتفع به كمؤسسة وكأفراد على حساب الشعب المالك الحقيقي لهذه الثروة المسلوبة.
وإن المؤسسة العسكرية تسخّر آلياتها كمؤسسة لتمكين هذا الاستغلال الاقتصادي، هذا فضلا عن أن الجيش يسخر قوى المجندين ليس لهدف عسكري، وإنما كقوى عاملة مجانية لزيادة المكاسب المادية من القطاع الاقتصادي الذي استولت عليه المؤسسة، حيث أصبحت عطاءات شركات الجيش غير قابلة للمنافسة من قبل شركات القطاع الخاص، مما أثر سلبا على استمرارية هذه الشركات في السوق غير المتكافئة.
إذاً، وبصورة واقعية، فإن تواجد الجيش في الساحة السياسية هدفه الأول والأكبر هو الحفاظ على رقعة القطاع الاقتصادي الذي استولى عليه أثناء العقود الماضية، والعمل على زيادتها والتمدد إلى قطاعات أخرى، مثل الصحة والتعليم والتموين، ومحاولة السيطرة عليها، لذلك نرى تحالفا طبيعيا بين مؤسسة الجيش وبين الفساد الاقتصادي المتفشي في مصر، فالفساد الاقتصادي مكّن الجيش من الاستيلاء على العصب الاقتصادي للدولة، وهو ما يعطيه الأداة للتحكم في المجتمع.
هذا الاستيلاء على رقعة واسعة من اقتصاد الدولة حدث من خلال محورين، الأول: من خلال التعامل مع رجال الأعمال الفسدة الذين بنوا ثرواتهم على نفس النهج من الفساد والسرقة، والثاني: من خلال مؤسسات الدولة، حيث تم استعمال الفساد الاقتصادي لرشوة أعضاء هذه المؤسسات، سواء القضاء أو غيرها، بالإضافة إلى أن تحكم الجيش في السلطة لأكثر من ستة عقود غرز في قلوب ضباطه غطرسة القوة وازدراء للشعب الذي يحكمه ويسيره منذ أجيال.
ومن هنا نرى أن المؤسسة العسكرية أصبحت فاسدة في ذاتها، حتى وإن كان فيها شرفاء خاصة من بين أفراد الضباط الصغار.
ومن هذا المنطلق، ليس من المنطق أن نظن أن هذه المؤسسة العسكرية بثرائها الاقتصادي، والمبني على سرقة الشعب واغتصاب حقوقه، وبجبروتها المؤسس على القوة وعقود من الهيمنة على مواطني مصر، ستتخلى عن ثرواتها أو مصدر قوتها طوعا، بل يمكننا القول إن الانقلاب في أساسه كان تحركا من المؤسسة العسكرية لحماية مصالحها الاقتصادية وسلطتها السياسية من الخطر الذي رأته في نتائج ثورة يناير من بداية تجلي للإرادة الشعبية عبر انتخاب رئيس وبرلمان يخدم الشعب، وليس مؤسسات الدولة العميقة.
لذلك يكون الاستنتاج أن مؤسسة الجيش، وإن رضيت بالتفاوض مع القوى المناهضة للانقلاب، ستفعل ذلك فقط لحماية مصالحها وفقط، وإذا رأت أن السيسي كشخص يهدد هذه المصالح فربما تتخلى عنه لتعمل تحت غطاء قشرة حكم مدني وهمي بشرط أن تتحكم هي فيه، وتكون نتيجة ذلك؛ الحفاظ على مصالحها وسلطتها بالكامل، وفي وضع تكون المؤسسة متأكدة فيه أن أي تغيير لهيكل الفساد الذي يغذيها لن يتعدى التغيير الشكلي ليس إلا.
وبنظرة إلى تاريخ المؤسسة العسكرية الذي لا يخفي على أحد، نجد أن تلك المؤسسة قد فشلت فشلا ذريعا في مهمتها العسكرية، فمعركتا السويس وبورسعيد كانتا نصرا للمقاومة الشعبية وليس للجيش، هذا فضلا عن هزيمة 1967 التي كانت جلية في هولها، كما أن تبديد بطولة عبور القناة وتحويل النصر إلى تراجع يُدرّس في الكليات الحربية في العالم كمثل لمقدرة جيش الكيان الصهيوني لتحويل هزيمة حتمية لنصر استراتيجي عبرة لمن يريد دراسة الواقع بدلا من الأساطير. أي أن المؤسسة العكسرية بتكوينها الحالي لا تستطيع أن يكون لها كيان عسكري في أساسه، فهي كما قلنا ليست إلا هيئة اقتصادية مسلحة، ولا بد أن تتحول إلى جيش حقيقي مهني ومحترف يدافع عن الوطن ويحفظ سلامة أراضيه، ويصون أمنه القومي، كما هو الحال لأقوى جيوش العالم.
إن الانقلاب يمثل صراعا بين طرفين: طرف يرى أن الشعب أداة لخدمة النخب المتحكمة فيه عبر المؤسسات الفاسدة، والتي تفرض إرادتها لتسخيره لمصالحها الاقتصادية، وتفقره لزيادة ثرائها، وتقمعه لفرض إرادتها، إرادة الأقلية، على الأغلبية عبر التخويف والترهيب والفساد حتى يفرح بفتات ما يرمى إليه.. وطرف آخر هو طرف
الثورة الذي يؤمن بهيمنة الإرادة الشعبية وحق الشعب المطلق في التحكم في مصيره والسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة، وحقه في ثروات الوطن. وعلينا أن نحذر من إعطاء المنظومة القمعية الفاسدة التي استعبدت مصر؛ قبلة الحياة في الوقت الذي بدأ الشعب المصري فيه أن يدرك الوعي السياسي حول حقوقه الأصيلة وقوته الحقيقية في لحظة تاريخية.
إذاً علينا أن لا نحيد عن الغاية التي ننشدها، وهذا يحتاج إلى العمل المستمر لزيادة الوعي السياسي بين كل أطياف الشعب المصري، وعلينا أن ندرك أن مؤسسات الدولة العميقة ستحاول كل مناورة ممكنة للحفاظ على سلطتها، خاصة أن لها تاريخا طويلا في تفرقة صف المعارضة، فهي تتعمد زرع الشقوق بين أطراف مناهضي الانقلاب بالإيحاء لبعضهم بسراب فكرة التسوية التي تعد بالفرج ولا ينتج منه شيئا تارة، وتارة أخرى تعمل من وراء الكواليس لتوحي لآخرين لرمي الشك على من لا شك في وطنيته وإخلاصه، لتضعف صف "الإخوان"، وهم القوة الكبرى المثابرة على ساحة الميدان.
والسؤال هنا: لماذا تفعل الدولة العميقة هذا وذاك؟.. تفعله لأنها تخشى انتشار الوعي السياسي، وتخشى أن نتعلم الصبر والإعداد، وتحاول أن تحول أنظارنا عن ما استطعنا كشعب إنجازه من كسر لحاجز الخوف وتصد لمنظومة اعتادت على تذللنا، وهذا يدل على أن الثورة الرافضة للمنظومة ككل، وهو المسار الذي نسير عليه، هي التي تزعجها.
وختاما، أعيد التأكيد بأن الثورات لا تأتي بميعاد، ولكنها تأتي نتيجة العمل التراكمي والإعداد المعنوي والفعلي، ولكن الأهم من ذلك كله هو الإصرار على عدم القبول بهدف أقل من النصر الكامل لإعادة بناء مؤسسات دولة مصر لخدمة شعبها كجزئية من مسيرة شعبنا لبناء دولة مبنية على العدل والمساواة؛ يحكم فيها الشعب نفسه ويفرض إرادته، ولا يخنع لنخبة أو سلطة.