إن كان لي أن أختار مشهدا، للفقيد الحبيب الدكتور عبد الكريم يختزل ذاكرتي وذكرياتي معه، فهو ذلك النهار الرمضاني من عام 1433.كان "الكشف الصوفي "يصلني، بإشارة "صوفية – سياسية"، أن صنعاء ستسقط وأن الدولة سترحل في غيابات الاقتتال، وأنه عما قريب راحل!!!
قبل هذا، أجدني أتذكر "دمعاته" التي كان يخفيها عن القائد العسكري المعروف "م. خ"، والدكتور يقوم بالوساطة بعد مواجهات "كنتاكي" 2011 الشهيرة-بين أبناء-قرية الأحمر، سنحان- "علي صالح" رأس النظام التي قامت ثورة فبراير لإسقاطه و "علي محسن" الرجل الثاني في النظام بحساب القوة، الذي قفز لمركب الثورة - كانت كلماته التي رواها-لي- اللواء بالحرقة ذاتها :-
- " هؤلاء سيحرقون صنعاء"
وها قد أحَرقوا اليمن برمتها، مع آخرين. وفي ذلك النهار الرمضاني، أيضا، كان الدكتور يبحث عن ممثل بعض الآخرين-الحوثي" صالح هبرة" مزارع العنب- أحد أمناء الحوار الوطني، الذي كان قد أختتم أعماله بالوثيقة الوطنية- وهو يرى انفلات "الغول الحوثي المنتقم"- يريد أن يحذره، مما تكشف له عن درب الدمار الذي بدأوا يختطونه- كاستراتيجية أو طريقة إلى الحكم، وهو تفجير المنازل والمراكز الدينية لأعدائهم:-
-هذا مشروعكم السياسي "تفجير ممتلكات خصومكم" !
كان منطقة، كما أتخيله، يتمثل في بيت الشعر:
لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها..........ولكن أحلام الرجال تضيقُ
كان منصفا مع الحوثيين، كما كان قبلُ مع الإصلاحيين والسلفيين والناصريين، وغيرهم- يحترم خيار الحوثيين المذهبي الزيدي من غير "التحسينات والمستحدثات الفارسية"، ظهر ذلك في لقاءاته وحواراته الخاصة والصحفية، قبل أن يصبح لهم هذا الوزن. وحين صاروا "قوة" وهذا أهم "اعتبار سياسي" لحكم بلد "عالم ثالث" مثل اليمن، لم يتورع- لأجل بلاده التي يعشقها- أن يكسر "المحاذير" الصحية التي طوقت ساعديه، التي جعلته منذ أزيد من عقد كامل ينشد في ملأ المؤتمرين في عدن:- "رحم الله امرأ عرف قدر عمره".
لكنه يمارس دبلوماسيته كشاب في العشرين، وها هو –من غير التفات للناقدين يزور "عبدالملك الحوثي"، ويلح في الزيارة، المرة تلو المرة -ضمن وفود الحوار والسلام. فقد كان يعلم جيدا أنه الشخص الذي يمسك بالحزام الناسف. وها هو، كمثقف تاريخي كبير في تاريخ الحكم والأمم، وكخبير في نشوء السلطة، ينضحهم كرامة من "كراماته الذهبية"، وعلى الملأ:-
- اعملوا حزبا سياسيا؛ كأنه يحذرهم من استخدامهم التعريف المشهور للفيلسوف "كلوزيفيتش" :- "الحرب هي استكمال السياسة بطرق أخرى"، فدعوا عنكم أوزار ودمار وفشل الحرب، وادخلوا السياسة وستحكمون. كل شيء ليس في الشمال وحسب، حتى في الجنوب كان يتعاطف مع طفرة "الثائر الحوثي"، قاهر نظام عفاش وأساطينه، التي طالما قهرت الناس، مع ذلك التصنع الرحيم والعادل والمتمدن في الخطاب الحوثي.
لكنهم بجهل، مرتبط بمستوى علومهم وخبراتهم الحياتية، وبغباء سياسي غير ناضج، فتحوا عليه أبواقهم وسفهاءهم، وغلمانهم، ورموه بكل نقيصة، وكأنه أهانهم بنصيحته تلك. فراحوا في هستيريا يقولون:-
نحن حركة تصحيحية، نحن الثورة، نحن الدولة، نحن آل رسول الله، نحن الدين، نحن أنصار الله. وأنت من أنتّ؟ أنت من أنت؟
" وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان" صدق الله العظيم.
لقد مر الدكتور بكثير من محاولات الإساءة والتحجيم – بعضها من أعز رفقائه في المؤتمر الحزب، واليمن الدولة، ليست أشهرها تلك الجملة التي قالها حين سلط أركان الحكم أنفسهم من آل "سنحان" غلمانهم عليه، إبان تسنمه رئاسة الحكومة- بسبب شعبيته الجارفة ومقدرته الفذة التي آمن بها اليمنيون كلهم-: دشنوا حملة تحريضية كبرى، أكبر حتى من الأخيرة التي قام بها "الحوثان" وكان عنوانها الفاجر:-"لا إرياني بعد اليوم" وكان رده القاصم لظهورهم:-
-"شكرا لكم، يا لها من مكافأة نهاية خدمة"
ولا ننس أيضا، محاولات الاغتيال المشهورة، التي دبرت من أجهزة أمن دول عربية.
مشهد آخر يوضح محاولته معالجة هذه الآلام القاتلة، طيلة حياته. كنت أسترجعه، أيضا مع قيادي مؤتمري جنوبي تسنم وزارات ورئاسة جامعات، من قبل قيام الوحدة بين الشمال والجنوب . وعانى من فساد عصر "الصالح"، وبعد أن انضم لثورة "فبراير" وببساطته المعروفة، لام الدكتور ومجموعة "الرعيل الأول" من حملة الشهادات وأصحاب المشاريع المدنية- الدكتور (ن.ع). كيف تركوا البلاد تمشي بهذا "الرتم المتخلف" وتصبح مطية لبعض المتنفذين، ولجهاز إداري عقيم ومتأخر. كيف لم سيطروا على هذا العسكري. وكان رد الدكتور عليه بهدوء:-
نعم، كنا نظن أننا سنحتويه، ونرسم له المسار. لكنه فاجأنا بالإمساك بكل مراكز القوة والقرار في البلاد. جلب أقرباءه للجيش، ومكن الفاسدين والثعالب من مفاصل الدولة، ونحن ما كان أمامنا إلا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه.
يتشابه الدكتور عبد الكريم مع والده القاضي علي- وهو قطب من أقطاب آل الإرياني- في أمور كثيرة منها، أنه كان داعية "للإصلاح" التعليمي، والتشريعي، وكم تمتلئ كتب المؤرخين والعلماء بتلك القصائد، التي كانت غنية بالإشارات والكرامات، التي أهملها "الإمام يحيى" وأركان بيته، حتى خر عليهم سقفه. ويتشابه معه في شيء آخر:- وقع مفاجأة موتهم على الآخرين -لا عليهما- بالرغم من الموت المبكر للأب في نهاية العقد الثالث، وللابن وقد جاوز الثمانين، إلا أن "روح المباغتة" هي هي.
أيضا في السبب، مرضا، الأب بسبب "التيفوئيد" وكان اسمه "الوعسة"، على سهولة علاجه. وهو "وباء" كان يليق بعصر-الجهل والفقر والمرض-عصر الأئمة من بيت "حميد الدين". والابن بالقلب وهو مرض يليق بالطعنات التي تلقاها الدكتور طيلة حياته، كانت الأخيرة، قاتلة بسبب هول ما أمست فيه معشوقته اليمن. إلا أن الأب رثى نفسه، قبل أسبوع من وفاته- مستكشفا موته القريب، قبل إصابته بالمرض، وهو بكامل الصحة والعافية، في واحدة من أشهر الرثائيات التراثية، التي ظل إنشادها إلى حد قريب طقسا من طقوس مناسبات العزاء في "إريان"، لكنني للآن أتساءل بم-يا ترى- رثى الابن نفسه؟
نعم، نحن أسرة آل الإرياني نحمل إرثا "صوفيا قديما" لم يعد موجودا بأي حال، وجلي للجميع أن الدكتور كان من مدرسة "مادية" تؤمن بقيمة العمل، وبأهمية الجهد للوصول للأهداف، وهي بعيدة عن فكرة المعجزات والكرامات الصوفية، إلا أن المفارقة، أن أغلب من كتبوا عنه، وعن منجزاته، وإبداعاته ونشاطاته العديدة الخارقة. تراهم كأنهم يكتبون عن مجموعة "كرامات" تجري على يد عبد الكريم الإرياني. وأزعم، أنه بالرغم وفاته، فإن جهوده الأخيرة لإيجاد حل سلمي ستجد طريقها، بكرامة إلهية لكل اليمنيين.
أريد أيضا، أن أتوقف عند كلمة الموت حين سمعتها، لأول مرة، من فم الدكتور، كان ذلك في عام 2008 تقريبا. حين كان عائدا من قطر، أيام توسط قطر في حل النزاع الحوثي مع الدولة. جرنا الحديث وأنا أسأله عن "شهادته على العصر" أن أكتشف أن أمير قطر السابق "حمد بن جاسم آل ثاني"- طلب منه تسجيل حلقات لقناة الجزيرة. وكان رده:- نعم، لكن شريطة أن تذاع، بعد موته. بصراحة، لم أفكر بعدها، هل تم الاتفاق أم لا؟ لكن، هالني حديث الدكتور عن "موته" هالني، فقد كنت أظنه-وأستغفر الله- لن يموت! الآن أتذكر بيتا، في قصيدة والده القاضي علي:
ألم يكُ هذا الموت حقا فمالنا ونحن نراه الحق نحسبه وهما
أعود أخيرا إلى ذلك النهار الرمضاني الأخير، من عام 1344هـ، وخلاصة الذكريات التي بدأ خيطها، بواحدة من "لمسات" الدكتور الثقافية، إذ يفاجئك دائما بعد عودته من السفر بكتاب جديد أو "رواية جديدة" وبعضها كنت أقرأ عرضها في صحيفة أو موقع، لأجدها أمامه في مكتبه العامر ومكتبته الباهرة، في قبو بيته. وكان ببساطة يعير كتبه لمن يطلبها. نسيت وقتها، أن أعيد كتابا استعرته مذ أمد بعيد وهو كتاب"" GOD'S WAR وهو كتاب يتحدث عن تاريخ الحروب الصليبية-، كان الكتاب الوحيد الذي كتب الدكتور اسمه في قصاصة ورقية، كتب فيها اسمي كمستعير للكتاب. وحين اعتذرت عن تأخري جرنا ذلك إلى حديث "الكشفين / الإشارتين "الأخيرتين، التي صدرت بهما المقال. حين أخبرنا أن نظره بدأ يعتل وأنه أصيب بمرض نادر، قالت له الطبيبة الألمانية المعالجة إنه لا علاج لهذا المرض، فرد عليها :- أيعني هذا أنني ربما أموت أعمى؟ فأجابته –بجدية ألمانية تؤمن بالقدر لا مجاملة ولا تشجيع فيها كتلك التي يقولها الأطباء عادة :-"ليس بالضرورة قد تموت قبلها"، أتبع جملته الأخيرة بضحكة، و ضحكنا معه، لكنني رأيته بعدها ينظر نظره بعيده عميقة صامته، وخطر ببالي، وقتها، أنه ينظر إلى الموت.
صادف ذلك النهار، أيضا وأيضا، أيام المواجهة بين الحوثيين والقوات الحكومية التي يقودها اللواء حميد القشيبي، وكانت عمران تمثل خطة دفاع الأخير عن صنعاء. وكان اللغط يسود أوساط الناس حول تراخي "رئيس الجمهورية" عبدربه مع الحوثيين ضد "اللواء القشيبي"، الذي هو حليف لحزب الإصلاح، ولمستشاره القوي "علي محسن". أذكر أنني عدت من باب المجلس، وقد شيعنا الدكتور-كما هي عادته مع الجميع، متواضعا-، إلا أنني عدت فجأة، وسألته، بما يشغلني ويشغل الناس:- القشيبي..القشيبي، يادكتور؟ رد سريعا، وكأنه يقول لي ارو عني :-
"قلت لهم وليكن محسوبا على الإصلاح أو علي محسن. لكنه يمثل الدولة ولو سقط فستنهار الدولة".. وقد كان سقوطا مروعا .. عض عبد ربه والمتخاذلون معه أصابع الندم، بعد ذاك، ولات حين ندم!!
يوم وفاته كنت أجري عملية صغيرة في عيني، خارج اليمن، حرمتني البكاء عليه. كما ستحرمني من تشييعه إلى مثواه الأخير. لكنني، فجرا – وبكرامة –أخيرة وجدتني، في صنعاء، وكانت المدينة مظلمة، رأيتهم يصلون عليه، في شارع شعبي، ذهبت لألحق بالصلاة، ورأيتني أطير فوق جموع المصلين وقد ختمت الصلاة، وتفاجأت أنه هو من كان يؤم المصلين عليه، كان في وضع التسليم خاشعا مخبتا، فوق تراب بلاده...بكيت حينها نائما، فصاحيا كما لم أبك من قبل.