بعد يوم من إعلام الخديعة الذي عزف على انهيار سعر الدولار في مصر شهد صباح يوم الخميس 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 إعلان البنك المركزي المصري عن تحرير أسعار الصرف، وترك الحرية للبنوك في تسعير النقد الأجنبي من خلال آلية الانتربنك. وبناء على ذلك تم إعلان سعر استرشادي للدولار في البنوك بقيمة 13 جنيه -وهو ما يعني تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 48 في المئة - مع السماح بتحرك السعر في هامش بنسبة 10 في المائة ارتفاعا وانخفاضا.
ونحو مزيد من الخديعة أعلن البنك المركزي وفقا لما نقلته (رويترز) عن طرح عطاء استثنائي نفس اليوم بمبلغ 4 مليارات دولار. ثم ظهر أن هذا الخبر كان مناورة حيث طرح البنك المركزي عطاء بمبلغ 100 مليون دولار فقط لا غير.
وقد جاء قرار البنك المركزي بتحرير أسعار الصرف مرافقا مع قراره برفع سعر عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة بواقع 300 نقطة أساس ليصل إلى 14.75 في المئة و 15.75 في المئة ورفع سعر العملية الرئيسة للبنك المركزي بواقع 300 نقطة أساس ليصل إلى 15.25 في المئة، وزيادة سعر الائتمان والخصم بواقع 300 نقطة أساس ليصل إلى 15.25 في المئة.
وقد شهد سعر الدولار ارتفاعا مع نهاية يوم الخميس الماضي حتى جاوز نسبة الهامش المقدر بـ 10 في المئة، ولم يمض اليوم حتى أتحفنا طارق عامر محافظ البنك المركزي بمؤتمر صحفي حرص فيه على الإفراط في تقديم الشكر للعاملين بالبنك المركزي، مصرحا بأن حرية تحديد سعر الصرف متروك للبنوك، وأن الفترة الصعبة انتهت، وأن تحرير سعر الصرف وخفض دعم الوقود وإقرار قانون القيمة المُضافة من أجل قرض صندوق النقد الدولي. وما إن انتهى طارق عامر من مؤتمره حتى تحقق ما قال من خفض دعم الوقود حيث أعلنت الحكومة عن رفع أسعار الوقود بنسب اقتربت من 47 في المئة.
وهذا يعكس بوضوح منهج عقيدة الصدمة الاقتصادية الذي يطبقه السيسي واقعا في حياة الشعب المصري فلم يفق الشعب المصري من مطرقة صدمة تحرير أسعار الصرف حتى جاءته مطرقة صدمة إقرار قانون الخدمة المدنية ومطرقة صدمة خفض الدعم عن الوقود في نفس اليوم ومن قبلها مطرقة صدمة ضريبة القيمة المضافة، ومطرقة صدمة 17 إعفاء استثماريا، التي لم يقتصر فيها على إعفاء الأغنياء من الضريبة الرأسمالية في البورصة لمدة ثلاثة أعوام أخرى بل امتد للتفريط في ثروات مصر بمقابل زهيد تارة وبدون مقابل تارة أخرى.
إن الإجراءات التي قام بها البنك المركزي لتحرير أسعار الصرف تكشف يقينا أن هذا التحرير تم بالتنسيق الكامل بين البنك المركزي والبنوك ووسائل الإعلام، وقد مثل خديعة كبرى لكل من يمتلك دولارات حتى يسارع في بيعها ومن ثم تدعيم حصيلة الاحتياطي بالبنك المركزي ثم اتجاه الدولار للارتفاع تارة أخرى، خاصة وأن البنوك تشتري ولا تبيع، وأن ملعب سوق الصرف ما زال بيد السوق الموازية، وتحركه أصابع سيادية، وأنه لا يوجد مؤشر واحد على تحسين موارد مصر الدولارية حاليا ومستقبلا من صادرات وسياحة وتحويلات المصريين بالخارج وإيرادات قناة السويس. وقد اقترب سعر الدولار في السوق الموازية من 19 جنيها، وفي السوق الرسمية وصل إلى 17.25 جنيها ليرتفع بذلك منذ الانقلاب العسكري بنسبة تزيد عن 145 في المئة.
إن تحرير أسعار الصرف سواء من حيث آليتها أو توقيتها يمثل كارثة اقتصادية واجتماعية ولن يتوقف سعر الدولار ارتفاعا ومعه لن يتوقف الارتفاع في الأسعار – في بلد تعتمد في تلبية سلعها الضرورية على الاستيراد- وزيادة نسبة الفقر، وزيادة فاتورة الدين الداخلي والخارجي وعجز الموازنة، ولن يفيد في حقيقته الصادرات التي تتسم بعدم المرونة واعتمادها بصفة رئيسة على المواد الخام من الواردات كما أنه وعلى المدى القصير والمتوسط لن يصمد الاحتياطي بالبنك المركزي (19.6 مليار دولار) لدعم الدولار، الذي يمثل في حقيقته ودائع تكفي لتغطية استيراد شهور معدودات، رغم أن البنك المركزي نفض يده بعد التحرير وترك تحديد السعر للبنوك.
أما رفع سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة، واتجاه البنوك لرفع سعر الفائدة على الودائع وطرح شهادات إيداع جديدة تصل فوائدها إلى20 في المئة، فإنه قد يكون شيئا طبيعيا في ظل سعي البنك المركزي للحيلولة دون الدولرة وسحب كميات من السيولة من السوق لتحجيم التضخم، لكن من ناحية أخرى يجب النظر إلى أن ارتفاع سعر الفائدة على القروض سيؤدي حتما إلى ارتفاع تكلفة الاستثمار ومن ثم ارتفاع الأسعار والدخول في ركود تضخمي، يرتفع معه التضخم والبطالة معا، فضلا عن ارتفاع فاتورة الدين العام المحلي بارتفاع الفوائد على ما يطرح من أذون وسندات الخزانة.
إن اعتماد الحكومة على السياسة النقدية وغض الطرف عن التكامل مع السياسة المالية والهيكلية، والتهليل لتحرير أسعار الصرف وكأنه ملحمة لن يجدي نفعا، فالقضية ليست في التحرير بقدر التصدير، والتصدير لن يتم إلا بالإنتاج، ولا إنتاج في ظل عسكرة الاقتصاد وفقدان الاستقرار وبقاء العدل والشفافية والنزاهة في طَي النسيان. مع التأكيد على أن هذه الإجراءات ما هي إلا من باب الخنوع لصندوق الخراب (صندوق النقد الدولي) من أجل حفنة دولارات سيذهب نفعها ويبقي غرمها، ومن ضيع منح مليارات أموال الخليج لن تنفعه مليارات قائمة على الدين.