العلم يرفع بيتا لا عماد له / والجهل يهدم بيت العزِّ والشرف
هذا ما أدركه أعمى المعرّة، أبو العلاء، قبل نحو ألف سنة، ولم يقل شاعرنا إن التعليم هو عماد البيت/ الوطن، بل "العلم"، وشتان ما بين التعليم والعلم، كما انتبه لذلك الشاعر سابق البربري:
الْعِلْمُ فِيـهِ حَيَـاةٌ للقُلُـوبِ كَمَا / تَحْيَا البِلادُ إِذَا مَـا مَسَّهَا الْمَطَـرُ
وَالعِلْمُ يَجْلُو الْعَمَى عَنْ قَلْبِ صَاحِبِه / كَمَا يَجْلِي سَوادَ الظُّلْمَةِ الْقَـمَـرُ
وتناولت على مدى ثلاثة مقالات هنا، ما قاله الشاعر البربري في بيتين من الشعر، أعني أنه بالعلم وحده تتفتح البصائر والعقول وترتقي الأمم، ولهذا فإنني أزعم أن الحكومات العربية، تتعمد حشو عقول الأجيال العربية المتعاقبة، باللغو الذي يلغي العقل، فيتحول الشعب الى قطيع، يصدق عليه قول الشاعر أحمد شوقي:
ملأ الجـوّ هتـافا / بحيـاة قاتـليه / أثّـر البهتـان فيه / وانطلى الزّور عليه / يا لـه من بـبّغاء / عـقلـه في أذنيه
في مقال له في صحيفة "مكة" في يونيو من العام الجاري (2016)، يقول الكاتب السعودي محمد الحاجي "على مر الأزمنة، تصارع السلاطين والساسة، على حق امتلاك المعرفة ومصادر المعلومة.
فالمعرفة قوّة وسلاح، بشكل يوازي المال والعتاد العسكري. ولأن المعرفة بهذه الأهمية، هناك من يحاول الاستئثار بها لنفسه. ولهذا تأسس مجال "إدارة الفهم" في الأوساط الأكاديمية والسياسية.. ثم انتبه الباحث الأمريكي روبرت بروكتر، المتخصص في مجال العلوم إلى أن هناك شيئا يسمى علم الجهل Agnotolgy وهو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية منهجية رصينة".
وعلم الأغنوتولوجي (التجهيل) في تقديري، صناعة عربية بامتياز، وإن عجز العرب عن منحه اسما ذا جرس ورنين، فمناهجنا التعليمية تعمل على إلغاء العقل والادراك، وينتج عنها بالتالي "أميون بشهادات"، فإذا لم يكن من المسموح للطالب أن يرسل ويستقبل المعلومات، أي يعمِل فيها الفكر، وهو على كرسي الدراسة، وتحت سلطة عدد محدود من المدرسين، فإنه يدخل الحياة العملية ويصبح تحت سلطة تنفيذية غاشمة تجعله يستنتج أن قلة العقل نعمة.
ومع هذا، لم يعترف العالم للعرب بالريادة في مجال التضليل والتجهيل مع سبق الإصرار والترصد، بل جعل فارس هذا المجال جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في حكومة ادولف هتلر النازية الذي ملك من الشجاعة ما جعله يعلن "كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي"، فالثقافة في نظر الأنظمة القمعية كافة، هي مفتاح البلايا والرزايا، لأنها تنير العقول، وتحمل على التفكير، الذي يقود الى التحرير- تحرير العقل.
كي تتضح صورة الاستخفاف بالعلم في العالم العربي، تعالوا نقارن بين حاله عندهم وعند عدوتهم اللدود المفترضة، التي يعتزمون منذ ستة عقود رميها في البحر:
إسرائيل تخصص 40% من موازنة التعليم العالي (نحو 12 مليار دولار) للبحث العلمي، بينما الدول العربية مجتمعة تخصص أقل من 1% من الناتج الوطني للبحث العلمي، بل إن إسرائيل تحتل المرتبة الثالثة عالميا بين الدول التي تولي البحث العلمي أهمية قصوى
ولهذا كان من الطبيعي أن يفوز ستة علماء إسرائيليون بجوائز نوبل في الاقتصاد والكيمياء، وروائي إسرائيلي واحد بجائزة الأدب (فاز الزعيمان الإسرائيليان شيمون بيريز ومناحيم بيغان بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع ياسر عرفات وأنور السادات على التوالي)، بينما حظ العرب من جائزة نوبل في ميدان العلوم صفر على اليمين والشمال.
وأستحلفكم بالله ألا تصيحوا: أحمد زويل عربي مصري، فقد فاز الرجل بالجائزة عن اكتشاف شيء اسمه الفيمتو ثانية، لأنه أمريكي، فقد حرمته الجامعة المصرية التي تخرج فيها من حق الابتعاث إلى الخارج للدراسات العليا، فخرج من مصر الى الولايات المتحدة، وعاد إليها "خبيرا أجنبيا" زائرا عابرا.
ولأن المؤمن ينشد رحمة الله، فعلينا أن نعرف قدر أنفسنا، ونحن نلعلع ونبرطم ونحذر
اليهود بأننا سنريهم الويل وسهر الليل، في حين أن اليهود عملوا بالمقولة العربية الخالدة: من طلب العلا سهر الليالي.
فحتى عام 2015، كان 185 يهوديا قد فازوا بجوائز نوبل في مختلف مجالات العلوم، وكان 40 في المئة من
جوائز نوبل في الاقتصاد على مر تاريخها من نصيب اليهود، و28 في المئة من جوائز الكيمياء أيضا من نصيبهم بينما يمثل اليهود أقل من 0.2 في المئة من سكان العالم.
ولم يكن ذلك نتيجة مؤامرة، بل نتاج كد ومثابرة، فكأقلية ظلت مضطهدة على مدى قرون، عرف اليهود أن نجاحهم وفلاحهم في الدنيا يتوقف على التسلح بالعلم والمعرفة، فنجحوا بذلك أيضا في عالم المال والأعمال (وعزيمة أهل القلة والاضطهاد هي التي جعلت الفلسطينيين الأفضل تعليما وأقل أمية بين العرب قاطبة).
وهناك ثلاث جامعات إسرائيلية بين أفضل 150 جامعة في العالم، بينما هناك جامعة عربية واحدة (الملك سعود) بين أفضل 500 جامعة في العالم (ترتيبها 328)، وترزح 90 في المئة من الجامعات العربية في خانات ما بعد الخمسة آلاف، ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.