يستخدم بوتين في سوريا لغة السلاح وحدها سبيلا إلى تحقيق أهدافه. وهو لا يستثني من ذلك أمريكا، شريكته في البحث عن حل سوري، تريده واشنطن سياسيا ويراه هو عسكريا. ولئن كان عليه المرور في دهاليز السياسة وتناقضاتها وصراعاتها، فإنه لا يجوز أن ينفصل عن الهدف الاستراتيجي: الحل العسكري الذي يقضي على ثورة سوريا، ويمهد، في الوقت نفسه، الطريق إلى نظام أمن إقليمي ركيزته علاقة استراتيجية روسية/إيرانية، على أن يواجه واشنطن بطرق تعتمد المغالبة والردع، ترفض الحلول الوسط، وتخوض معارك حافة هاوية، مثلما يحدث في سوريا.
دخلت روسيا إلى سوريا من ثغرة أمريكية جسدها التزامها بالنظام الأسدي؛ بحجة عدم توافر بديل له يستطيع القيام بمهامه السياسية والأمنية، سواء في ما يتعلق بإسرائيل أو بأمن المنطقة ونفوذ أمريكا عليها. بما أن روسيا تقاسمها وجهة نظرها، فقد استغلت رغبتها في حل وسط لتنتزع منها تنازلين: واحد يتعلق ببشار الأسد، وآخر بحفظ توازن القوى بينه وبين الثورة، ريثما تتفق الدولتان على مداخل إلى حل سياسي يلبي مصالحهما.
وبما أن التوازن لا ينتج الحل السياسي المنشود، وأن النظام يريد حلا عسكريا يستحيل إفشاله دون غلبة ميدانية للثورة، تقنع الأسد باستحالة حله العسكري، فقد ركزت روسيا سياساتها على كسر التوازن الميداني لصالح النظام، واستغلت مفاوضاتها مع كيري لجعل الحل السياسي الذي سعى إليه مستحيلا، والحل العسكري خيارا وحيدا.
بينما كانت واشنطن ترى في توازن القوى بوابة الحل السياسي، كانت موسكو تنشد حلا عسكريا حجته أن الطرف الثائر ليس غير تجمع إرهابيين، إن لم يسحق استباقيا هدد أمن روسيا الداخلي وهاجمها. لذلك، لا مجال لأي حل سياسي معه؛ لأنه سيشجعه على الانفراد لاحقا بالسيطرة على سوريا: مركز نظام الأمن العتيد، المنشود روسيا للمنطقة.
ومن غير الجائز أن ترتكب روسيا خطأ قاتلا كهذا، يعني تقويض قدرتها على بناء نظام دولي تشارك أمريكا فيه، من موقع الندية العسكرية النسبية، وإن لم يكن من موقع ندية شاملة تضم مجموع عناصر القوة كالاقتصاد والتقدم العلمي/التقني، وحجم الإنتاج الاجتماعي والإسهام في التجارة الدولية.. الخ، علما أن بناء نظام الأمن الإقليمي في المنطقة المتنازع عليها مع واشنطن في شروط تبدو ملائمة نسبيا، بسبب علاقات إيران السيئة معها، واستعادة درب من الانتشار الدولي قريب مما كان للسوفييت، سيحسن موقع روسيا العسكري، وأوضاعها الاقتصادية ودورها في التجارة الدولية ومكانتها من التقدم العلمي/التقني.. الخ.
تضع روسيا دورها السوري في سياق تنافس صراعي مع أمريكا، وليس في سياق توافق على قضية منفصلة عن قضايا الخلاف الدولية بينهما، وتعتقد موسكو أن ضغطها عبر الورقة السورية سيقدم لها مدخلا إلى فتح باب التفاوض حول هذه القضايا. بما أن واشنطن لم تربط بين وجود روسيا في سوريا وبين خلافاتها الاستراتيجية معها، فإن الأخيرة اعتمدت سياسات تستند إلى تصعيد عسكري متزايد، وتصلب موقفها أكثر فأكثر، رغم ما قدمته واشنطن لها من تنازلات في مسائل جوهرية منها الإبقاء على الأسد ومؤسسات نظامه.
بمرور الوقت، تراجع نزوع موسكو إلى حل وسط، وتحول اهتمامها إلى وضع عقبات في طريقه بحجة محاربة الإرهاب، التي اقترحت لها تنظيما موازيا لتحالف أمريكا الدولي الذي سارع إلى دعوتها للانضمام إليه، لكنها تجاهلت الدعوة وشنت حربا ضارية على الجيش الحر، لم تستبعد منها أطرافه المدعومة أمريكيا، والتي يضعف ضربها موقع واشنطن السوري، ويخرج أنصار الحل السياسي من المجال العسكري، ويخل بالتوازن الذي بنت حساباتها عليه، ويرغمها بالنتيجة على التخلي عن حل سياسي يطبق القرارات الدولية، والاستعاضة عنه بصفقات مع الكرملين تضمن مصالحها بقدر ما تتنازل في قضايا الخلاف الكبرى بينهما، والتي لا علاقة لها بالقضية السورية.
تجاوزت مواقف موسكو أي تفاهمات جرت مع أمريكا، فدخلت علاقات البلدين إلى حقبة ركود سياسي وتجاذب يعتمد على القوة، جعل جنرالات الكرملين يلوحون بصواريخ تستطيع إسقاط طائرات أمريكا، تغطي جيش الأسد بخط أحمر، يحول أي ضربة أمريكية تستهدفه إلى ضربة سيرد الجيش الروسي عليها.
بإصرار روسيا على إفشال اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، دخلت علاقاتها مع واشنطن، ومع القضية السورية أيضا، إلى مرحلة ستضيق فيها هوامش العمل السياسي بين الطرفين، وستفتح صفحة تجاذبات سلبية مفعمة بالتوتر بينهما، سيكون علينا أخذها من الآن فصاعدا في الحسبان، ومتابعة مساراتها ونتائجها بكل ما تحمله من معان ودلالات خطيرة تتصل بأوضاعنا وتتخطاها في آن معا، ستأخذنا إلى متاهات دولية دفعنا طوال أعوام الثورة ثمنا فادحا من دمائنا نتيجة لفرضها علينا، إن لم نواجهها بما تستحقه من جدية واعتماد على قدراتنا الذاتية وقرارنا الوطني المستقل، وحدة قرار وعمل، كانت فيها نهاية قضيتنا، وهلاك شعبنا.