كتاب عربي 21

استعمال السلاح ينسف شعار "تونس أرض دعوة"

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
لا يزال التونسيون يبحثون عن تفسير مقنع للأسباب العميقة التي تقف وراء انخراط الآلاف من شبابهم في التنظيمات السلفية العنيفة، وتحولهم إلى رافد مهم من روافد تنظيمي داعش والنصرة. ورغم أن التحاق تونسيين بالقاعدة قد بدأ منذ وقت مبكر، وتحديدا منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي عندما فجر أحد الشبان التونسيين نفسه بقرب بيعة "الغريبة" التي تقع بجزيرة جربة وتعتبر من أقدم مزارات اليهود في العالم، وذهب ضحية ذلك الانفجار أكثر من عشرين سائح ألماني، كما كان التونسيون من بين الجنسيات الرئيسية التي اعتمد عليها أسامة بن لادن لتشكيل تنظيمه المسلح في أفغانستان، وتنفيذ عديد العمليات الإرهابية الخطيرة مثل تلك التي ذهب ضحيتها الزعيم الأفغاني أحمد شاه مسعود. لكن مع ذلك، فإن ما حصل بعد الثورة التونسية اختلف تماما عما كان عليه الأمر من قبل. 

اليوم، بدأت كميات هائلة من المعلومات المتفرقة التي كانت في حوزة المؤسسة الأمنية تقع تحت أيدي الباحثين الجامعيين. وبما أن عين الباحث مختلفة في الغالب عن نظرة الأمني، إذ إن لكل منهما مجاله واختصاصه، فإن جمع هذه المعلومات وربط بعضها ببعض وتحليلها قد يساعد على فهم أفضل لهذه الظاهرة التي بلغت أوجهها خلال السنتين الأخيرتين، سواء على الصعيد الدولي والإقليمي أو على الصعيد التونسي والمحلي.

تمكن "المركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب" - الذي تأسس مؤخرا - من الاطلاع على وثائق خاصة بـ384 ملفا قضائيا تم فيه تتبع أكثر من 2224 متهما، وحتى يتجنب المركز التورط في مخالفات للقوانين المعمول بها في تونس اقتصر عمله على دراسة ألف متهم تمت محاكمتهم.

ما يهمنا في هذا السياق أن قادة تنظيم أنصار الشريعة كانوا ولا يزالون يرددون أنهم رفعوا السلاح في وجه النظام عندما تم استهدافهم من قبل الأجهزة الأمنية التونسية. ويستندون في ذلك على أن قائدهم "أبو عياض" رفع شعارا في البداية اعتبر فيه أن تونس "أرض دعوة وليست أرض جهاد". وقد تردد كثيرا هذا الشعار على أسماع التونسيين خلال الفترة الأولى التي تلت الثورة. كما تعهد هؤلاء في تلك المرحلة بعدم توجيه السلاح نحو الشعب التونسي الذي "حررهم من السجون التي وضعهم فيها الرئيس السابق زين العابدين بن علي".

بالرجوع إلى التقرير الذي أصدره "المركز" كشفت الملفات القضائية عن حقيقة مغايرة لما كان يعلن عنه هؤلاء. فتنظيم أنصار الشريعة لم يبدأ سلميا ثم اضطر للانتقال إلى العمل المسلح بسبب مواجهته أمنيا، وإنما بينت التحقيقات الأمنية والقضائية، وأيضا اعترافات الموقوفين من كوادر الجماعة، أن التنظيم أنشأ منذ البداية جناحا عسكريا. وأن هذا الجناح انطلق في العمل منذ اللحظة الأولى وفي خط مواز مع الأجنحة الأخرى الدعوية. وعندما تم الكشف عن التحركات الأولى لتهريب السلاح من ليبيا إلى تونس وشروع عناصر التنظيم في التدرب على استعمال هذا السلاح في معسكرات كشفتها أجهزة الرصد للأمن التونسي، فقد أكدت العناصر القيادية في تنظيم أنصار الشريعة أن ما قام به أنصارهم الموالين للتنظيم لا يستهدف تونس والتونسيين، وإنما سيستعمل في مواقع أخرى. غير أنه بالرجوع مرة أخرى إلى الوثائق القضائية يتبين أن ذلك لا يستقيم مع الوقائع على الأرض. إذ ينص التقرير على أن التنظيم شرع منذ تأسيس جناحه العسكري السري في "إرسال منتسبيه إلى معسكرات درنة وبني الوليد بليبيا للتدرب على القتال بعد تسجيل التزامهم بالعودة إلى تونس فور الانتهاء من تلك المهمة".

لا تحتاج المسألة إلى كثير من التفكير والتخمين. فكل تنظيم سياسي وأيديولوجي يؤمن بالعمل المسلح، ويشرع في تدريب عناصره على العمليات القتالية، وقد يتم ذلك داخل الوطن أو في معسكرات خارجية، فالنهاية الطبيعية لمشروعه هو التوجه إلى داخل البلاد بهدف إحداث تغيير سياسي. كما أن أي نظام سياسي، سواء أكان مستبدا أم ديمقراطيا، لن يسمح بغض الطرف عن انتشار السلاح داخل البلاد، ولا يمكنه السكوت وهو يتابع عمليات تدريب في الجبال على عمليات قتالية من قبل عناصر مدنية تتحرك خارج القانون.

وقد حاولت قيادة "أنصار الشريعة" استغلال فترة حكم حركة النهضة بين سنتي 2012 و2013 للتعجيل في بناء جهازها المسلح. وإذ غضت حركة النهضة النظر عن تلك العمليات الخطيرة وغير القانونية، وهو ما أربك الأجهزة الأمنية وأثار قلقها، لكن سرعان ما أدركت بعض قيادات النهضة بأن هذا السلاح سيرتد ضد الدولة، وهو ما أدى بعد جدل عاصف داخل أجهزة النهضة إلى التوقف عن السياسة المزدوجة والمهادنة لأنصار الشريعة، وذلك بعد أن تأكدوا بأن الأجندة السياسية لحركتهم مختلفة تماما في أدواتها وفي مضامينها عن أجندة "السلفية الجهادية". 

إن العنف له أدواته ومنطقه وأهدافه واستراتيجياته، ومن يتبنى ذلك لا يمكن التعايش معه داخل نفس الإطار الجغرافي، ولا يمكن أن يلتق مع من يستند في عمله على منهج إصلاحي يقوم على القانون وعلى النشاط السلمي الهادف إلى حماية الدولة والدفاع عنها. إنهما خطان متوازيان لا يلتقيان. 
التعليقات (0)