منذ الثالث من تموز/ يوليو 2013، يتنازع المشهد في
مصر عالمان: عالم افتراضي وعالم الواقع. أما العالم الافتراضي فهو مصر بعيون النظام وإعلامه، وعالم الواقع مصر بعيون شعبها وعين الحقيقة كالشمس في كبد السماء.
العالم الافتراضي وعالم الواقع هذا؛ ما تعيشه مصر ويعايشه شبابها، ويراه رأي العين كل متابع للمشهد المصري منذ ثلاث سنين.
مصر الافتراضية
مصر الافتراضية هي التي تراها في مؤتمرات ضخمة لا حصر لها؛ تثقل كاهل خزائن مصر الخاوية، لتمطر المصريين بمشروعات وهمية ووعود كاذبة تتلاشى وتتبخر بعد أخذ تلك اللقطة التلفزيونية.
مصر الافتراضية هي التي يراها المصريون مجددا في مؤتمر
الشباب الوطني بشرم الشيخ، قبلة
السيسي المفضلة، ومنها يُروج للمصريين عوالم افتراضية يُراد منهم أن يعيشوها، بل ويسبّحوا بمحامدها ويمدحوا شهدها، وإن لم يكن من المنظور أن يشتموا له ريحا أو يذوقوا له طعما.
مصر الافتراضية هي التي لا يمكن أن تراها، ولكن تسمع عنها فقط في كلمات السيسي وحكومته، ويتغنى بها إعلامه وحواريّوه، وعبرت عنها كلماته "بكرا تشوفوا مصر"، فكان الواقع أصدق أنباءً مما تخيل السيسي، ليفاجأ الجميع في أقدم دولة عبر التاريخ بقوله: "دي مش دولة دي شبه دولة"! وها نحن نراها الآن، ولكن يبدو أن القائل ومن يُؤمن وراءه على كل قول؛ في كوكب آخر يعيشون.
مصر الواقع
مصر الواقع هي التي باتت صورتين، وبات شبابها فريقين: فريق مع النظام نراه في شرم الشيخ، وفريق آخر إما في بطون القبور أو في غياهب المعتقلات والسجون.
مصر الواقع هي ما نراه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا وصحيا، وعلى الطرق وفي النهر والبحر، فتصدمك الأرقام والتقارير المحلية والدولية؛ فتتساءل لقد كانت قبل عقود؟ فكيف صارت ومن المسؤول؟ فيتألم لما آلت إليه المحبون المخلصون، ويتمادى المنافقون المنتفعون، ويفرح الأعداء والمتربصون.
مصر الواقع تراها عيون الجميع أينما وقعت، بلا رتوش في شوارع مصر وحواريها في صعيدها والدلتا، سيناء وفي شرقها، غربها، وجنوبها، في قسمات وجوه المصريين، في المقاهي ونواصي الطرقات؛ حيث أفنت البطالة أعمارهم.
مصر الواقع في وجوه ألهبتها شمس الظهيرة الحارقة في طوابير ممتدة؛ طلبا لكيس من السكر أو علبة حليب للأطفال أو سلعة حيوية باتت فجأة مختفية بألاعيب جهنمية، في وضع لا يمكن أن يحدث إلا في بلاد بها مجاعات أو حروب أهليه.
مصر الواقع في لوعة أب مكلوم وأم ثكلى طالت يد الغدر والبطش والإرهاب فلذة كبدهم، وفي صراخ أطفال غيبت يد البطش والإرهاب أبا لهم أو أخا.
مصر الواقع تراها في حسرة زوجة غاب عنها قسرا أو فقدت بيد آثمة زوجا لها.
مصر الواقع تراها في جثث شباب تطفو على شواطئ بحر تقاذفتهم أمواجه، بعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت في أم الدنيا، وبات الموت غرقا أهون عليهم من البقاء فيها بعد أن صارت لهم كسجن كبير.
مصر الواقع هي التي غاب العدل عنها، وفي أحكام إعدام تُصدرها منصات قضائية على خيرة شباب مصر ورجالها، في سابقة لم يعرف لها عالم القضاء مثيلا.
مصر الواقع تراها في شباب امتلأت بهم السجون، وفي هؤلاء الذين يُعذبون ويُقتلون، أم تراها في المداهمات والتصفيات، أم في تجاوز خطوطنا الحمراء في نيلنا وأرضنا وثوابتنا الاستراتيجية.
مصر الواقع تراها في احتضان المفسدين الفاشلين، والتنكيل بالشرفاء والمخلصين، فنكلت بكاشف مليارات الفساد فيها "هشام جنينه"؛ ليكون عبرة لكل أحد.. إن سألت فيها عن مليارات الخليج أين ذهبت، فلا يجرؤ أن يجيبك أحد.
مصر الواقع هي التي تستورد سلاحها ودواءها وأغلب غذائها وكسائها، وباتت تحتل مواقع متدنية في شتى التصنيفات العالمية، وهي التي والتي إلخ... والواقع فيه المزيد ولا عجب.
المؤشر العالمي لتنمية الشباب
بينما كانت تعزو الفضائيات والمواقع المصرية صور مؤتمر الشباب الوطني في شرم الشيخ، نشر موقع "أصوات مصرية" خبرا تحت عنوان "مصر تتراجع 52 مركزا في المؤشر العالمي لتنمية الشباب خلال 3 سنوات"، نقلا عن تقرير " منظمة الكومنولث" وهي رابطة طوعية تضم 52 دولة ويقع مقرها الرئيسي في لندن.
وقد ذكر التقرير أن مصر جاءت في المركز 138 في مؤشر تنمية الشباب لعام 2016، من بين 183 دولة.
وكان اللافت للنظر في هذا التقرير أن أسوأ تقييم للشباب المصري في مجال توفر الوظائف والفرص، حيث احتلت مصر المرتبة 174 عالميا، متقدمة على تسع دول فقط، هي هندوراس ومملكة بليز وبنجلاديش وأفغانستان وترينداد وتوباجو وتنزانيا واليمن والنيجر والعراق!
أما فيما يتعلق بغير ذلك من المجالات، فقد جاء مصر في مراتب ضعيفة يمكن الاطلاع عليها بالتفصيل في التقرير ذاته.
ويعتمد المؤشر على خمسة محددات لقياس مدى تنمية الشباب، في الفئة العمرية بين 15 و29 سنة، في كل دولة، هي صحة الشباب، وتعليمهم، والوظائف والفرص المتاحة لهم، ودرجة المشاركة في العمل المدني، والعمل السياسي. وذكر التقرير أن مصر كانت في المرتبة 86 في مؤشر عام 2013، أي أن ترتيبها تراجع 52 مركزا في 3 سنوات.
هذه هي الحقيقة التي تراها عيون العالم راصدة عالم الواقع في مصر فيما يخص الشباب وغير ذلك في شتى المجالات الأخرى.
ما بين الواقع وصناعة الأوهام
يبدو أن مصر في ظل تركيبة نظام الحكم الحالية ستستمر أسيرة صناعة الأوهام، وسيظل المصريون يعيشون بين حالتين: ذهول من تضخم العالم الافتراضي وصدمة من الحقيقة في عالم الواقع، صنعت كلتيهما يد النظام.
إن خبرة الواقع وتجارب الآخرين تؤكد أن ثلاث مهلكات في إدارة الشعوب والدول هي: الإدارة بالكذب، والإدارة بالمسكنات، والإدارة بالغشم. وهذه هي أركان العالم الافتراضي أو الوهمي الذي يصنعه نظام الحكم ليداري فشله وإخفاقاته في عالم الواقع.
في مصر إذا نظرت إلى خطاب الدولة وأدائها؛ فإن الخطاب خطاب التعالي والمن والأذى، أما الأداء فأداء العجز والتقصير والفشل، وهذا وحده يجلي لكل ذي بصر وبصيرة الفرق بين العالم الافتراضي وعالم الواقع في مصر المحروسة.
مصر بعيون نظامها ليست مصر بعيون شبابها وشيوخها، نسائها وأطفالها، وهذا هو الفرق بين العالم الافتراضي وعالم الواقع. فمصر لن تنهض بها مؤتمرات استعراضية، ولا كلمات عاطفية، وستظل تتراجع أكثر وأكثر ما بقي المشهد السياسي على حاله. فمصر في حاجة إلى تغيير جذري حقيقي، وإلا ستخرج خارج التاريخ.
مصر الافتراضية هي التي لا يراها إلا رأس دولة، وحكومته، وإعلامه، وعيونهم معلقة بالخارج، أما مصر الواقع فهي التي يراها شعبها بلا رتوش وعيونهم صوب الداخل.
وما بين مصر الافتراضية بعيون النظام، ومصر الواقع بعيون شعبها، تفصل كلمات عفوية لمواطن وصف نفسه بخريج توك توك: "تشوف مصر في التلفزيون تلاقيها فيينا، تنزل الشارع تلاقيها بنت عم الصومال".. وهنا كما قالت العرب: قطعت جهيزة قول كل خطيب.